تقدير موقف
الانتخابات العراقية وحدود الدور الأمريكي في ظل إدارة جو بايدن
يمر العراق اليوم بظروف حرجة، في الوقت الذي يستعد فيه لإجراء الانتخابات الوطنية في تشرين الأول المقبل، والتي يمكن أن تساعد الدولة في الخروج، من قبضة الفساد، والأحزاب الطائفية، أو أن تخسر الدولة كل المكتسبات التي حققتها حتى الآن.
وفي الوقت الذي يدخل البيت الابيض اليوم، إدارة ديمقراطية براسة جو بايدن، يوجد في عراق حركة وليدة، لكنها مهمة بين صفوف الشباب العراقي لرفض الهوية السياسية المستندة إلى الطائفية، والتي تنطوي على ذاكرة سوداوية، نتيجة استغلالها لتعميق الانقسام بين مكونات الشعب العراقي الدينية والعرقية. وأذا لجأت الولايات المتحدة إلى الحلول القديمة، التي تعمق الانقسامات الطائفية في العراق كطريقة لحكم الدولة، كما اقترح بايدن في السابق (مشروع بايدن لتقسيم العراق طائفيا)، فإن الأسوأ سيقع في العراق. لذلك يتعين على واشنطن دعم دولة السيادة، وأن تنشد الاستقرار والحكم الرشيد في العراق.
وثمة فرصة ضئيلة لكنها مهمة، لتغيير مسار العراق بصورة جذرية، لكن ذلك لن يكون سهلاً بالنظر إلى أن الانتخابات ستكون في أكتوبر المقبل، وإن فرصة العمل مع رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي والرئيس برهم صالح (وكلاهما يعتبر من أنصار التوجه المدني) محدودة، تقل عن ثلاث أشهر.
ومع إجراء الانتخابات المقبلة وتشكيل الحكومة، ستبذل الجهات المناوئة للكاظمي والمرتبطة بجهات خارجية، كل طاقتها لإبعاد الأحزاب، والسياسيين أصحاب التوجه العلماني والتقدمي عن إدارة الدولة.
إرث بايدن في العراق.
يمتلك الرئيس بايدن خبرة وتاريخ طويل في العراق، فالرئيس الجديد زار العراق مرات عدة، عندما كان عضواً في الكونغرس الأميركي ونائب الرئيس في إدارة باراك اوباما، وعندما كان بايدن رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، لعب دوراً مهماً في منح الرئيس جورج بوش الابن التفويض لغزو العراق عام 2002.
وفي عام 2006، كتب بايدن مقالة رأي في صحيفة نيويورك تايمز، اقترح فيها تقسيم العراق إلى مناطق طائفية وعرقية، وعلى الرغم من أن مصادر مقربة من بايدن قالت إنه تخلى عن هذا الموقف منذ زمن طويل، فإنه يتعين عليه إلغاؤه مباشرة. وعندما كان بايدن نائباً للرئيس كلفه الرئيس السابق، باراك أوباما، بالإشراف على ملف العراق، واعتبر حينها على نطاق واسع أنه صانع الملوك، عندما ألقى بكل ثقله خلف رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، كي يحكم فترة ثانية عام 2010. لكن في الوقت ذاته، بذلت إدارة أوباما كل ما بوسعها لتجاهل تدخلات إيران الهدامة في العراق.
وبايدن ليس وحده الذي يملك تاريخاً مهماً في العراق، فقد رشح شخصين ليكونا ضمن إدارته الجديدة، هما: لويد أوستن لوزارة الدفاع، وأنتوني بلينكن لوزارة الخارجية، وكلاهما يعرف العراق جيداً، وخدم أوستن كجنرال في حرب العراق عام 2003، ومن ثم أصبح رئيس القيادة المركزية الأميركية، حيث أشرف على انسحاب القوات الأميركية من العراق، ومن ثم عودتها من أجل قتال تنظيم “داعش” الإرهابي وعن طريق تعيين باربرا ليف في منصب مدير أول للشرق الأوسط وشمال إفريقيا بمجلس الأمن القومي، وبريت ماكغورك كمنسق للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يكون بايدن قد جلب اثنين من الدبلوماسيين المخضرمين، إذ عملا في العراق وكانا على قمة صنع القرار في مجلس الأمن القومي.
القضايا التي تشغل إدارة بايدن في العراق.
في ضل التوجه الأمريكي الجديد نحو تقليل الأهتمام بالشرق الأوسط والتوجه نحو اَسيا، لن يحظى العراق بالأهمية التي كان يحظى بها في السابق، فقد شكَّل العراق أحد بنود الأجندة الغائبة عن سباق الانتخابات الأمريكية الأخيرة، وذلك على عكس الانتخابات السابقة التي كان فيها، وتحديداً منذ عام 2003، حاضراً بقوة في المناظرات الرئاسية، أو حتى في تصريحات المرشحين.
لكن ثم قضايا اَنية وملحة تشغل إدارة بايدن في العراق، تتقدم على غيرها من القضايا الأخرى أهمها:
1_ الملف الأمني. ثم تهديدان تواجهما إدارة بايدن في العراق، التهديد الاول يتعلق بالتهديدات التي يشنها تنظيم داعش، فعلى الرغم من تحجيم دور هذا التنظيم عسكرياً، واستعادة السيطرة على أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها في مناطق شمال وغرب العراق، ألا أن هجماته في الاَونة الاخيرة قد تصاعدت، والتهديد الثاني يتعلق بالجهات المرتبطة بإيران، وخاصة الفصائل الولائية والتي دخلت علاقتها مع الولايات المتحدة مرحلة خطيرة بعد مقتل قاسم سليماني، من خلال تكثيف هجماتها على مقار السفارة الأمريكية والمعسكرات التي تتواجد بها تلك القوات.
وسيكون توجه إدارة بايدن في ذلك، هو إعطاء مزيد من الدعم والأدوار للقوى العسكري والحلفاء المحليين، لتكون أكثر فاعلية في مواجهة تلك التهديدات، مع اكتفاء الولايات المتحدة بتقديم الدعم الاستخباري واللوجستي، وهو توجُّه استراتيجي أمريكي ناتج عن تقليل الأنخراط الأمريكي بشؤون المنطقة في الاَونة الأخيرة.
الملف الإيراني. ثمة خلط شائع يتم تداوله بشأن علاقة إيران بالعراق، وهو أن إيران لديها ما اعتادت وصفه هي بـ”دور طبيعي” لها في العراق، سواء كان ذلك بسبب العلاقات الثقافية بين البلدين أو بسبب طموحات إيران للهيمنة. فإيران دولة ذات تأريخ أمبروطوري تلازمها سمة التمدد خارج حدوده ما وجد فراغ تملأه، وهذا الفراغ موجود بحكم العلاقة مع العراق، ومع ذلك ليس هناك سبب يدعو إيران لأن يكون لها دور أمني أو سياسي في الدول الأخرى ذات السيادة ومنها العراق طبعا. وبلاشك فإن العلاقات الثقافية مهمة، لكن وجود جهات في العراق تابعة للحرس الثوري الإيراني، تعمل بأوامره، وتعبر الحدود بحرية، يعتبر أمراً يتجاوز بكثير التأثير الثقافي.
ومن المتوقع ألَّا ينظر بايدن للعراق بمعزل عن إيران، ولذلك فإن تهدئة الأوضاع مع إيران عبر المفاوضات النووية وإعطاءها التطمينات التي تريدها، سيسهم بإنجاح مهمة بايدن في العراق، وتقليل فرص الفوضى التي يقوم بها حلفاء طهران أيضاً.
ملف الحوار الاستراتيجي. يحتاج العراق إلى استراتيجية جديدة لبناء قواته العسكرية بما يكفي لمواجهة التحديات الأمنية.
ولا شك أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل في حال قرَّرت إدارة بايدن في أي وقت من الأوقات الانسحاب، دون أن يكون هناك التزام استراتيجي يربط علاقاتها بالعراق، فعملية الانسحاب الأمريكي من العراق في ديسمبر 2011، أدت إلى تصدعات كبيرة عانى منها الجيش العراقي في مواجهة هجمات تنظيم داعش في يونيو 2014، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة للعراق في سبتمبر 2016 عبر التحالف الدولي ضد داعش، والذي تألف من 83 دولة، ساعدت في دحر التنظيم، وحققت إنجازات أخرى على الأرض، وسيأخذ الرئيس بايدن هذه التحديات بعين الاعتبار، حيث يشكل الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة تحدياً لكلا البلدين، في اتجاه رسم معالم علاقة استراتيجية مستدامة، تخدم أهدافهما ومصالحهما، وتساعد في إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.
ماذا يمكن القول.
على الرغم من تأكيد الإدارة الأمريكية الجديدة على موضوع حقوق الإنسان، ودعم التغيير السياسي السلمي في العراق، خاصة إذا كانت مطالب المحتجين تتمثل بمكافحة الفساد، وإجراء انتخابات نزيهة وتقليل نفوذ إيران، وعلى الرغم أيضا من دعم إدارة بايدن لجهود رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وفي هذا السياق، أكد ريتشارد ميلز نائب سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، بإن أمريكا تدعم المراقبة الدولية للانتخابات العراقية من أجل ضمان حرية، ونزاهة، ومصداقية الانتخابات. وعبر عن تطلّعه إلى التعاون مع العراق، ومجلس الأمن، والدول الأعضاء، والأمم المتحدة من أجل تحديد الشكل الأمثل الذي يجب أن تأخذه هذه الجهود. وقدمت الولايات المتحدة بالفعل 9.7 مليون دولار لبعثة الأمم المتحدة من أجل التحضير للانتخابات العراقية المقبلة. ودعا ميلز ايضا السلطات العراقية إلى التخطيط لتشديد الإجراءات الأمنية للانتخابات قائلًا: “إن ظهور الميليشيات المسلحة، والمتشددين العنيفين، والمخرّبين من أخطر العقبات في طريق توفير البيئة المواتية للانتخابات”.
الا اننا نستطيع القول في هذا المجال على ما يلي:
1_ سيقتصر دور الإدارة الأمريكية في الانتخابات العراقية، على تقديم دعم هش للحركة الإحتجاجية ومطالبها، فضلاً عن دعم جهود الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي في إجراء الانتخابات المبكرة، لتحقيق نوع من الاستقرار السياسي في المرحلة المقبلة، وستبذل جهوداً في انتشال العراق من أزمته الاقتصادية عبر تفعيل دور المؤسسات الاقتصادية الدولية.
2_ في ظل تعقيدات الأزمة العراقية، وتعدُّد أطرافها، فإنه يمكن القول إن إدارت بايدن ستولي السياسة أولوية على الاقتصاد في العراق، وستحرص على تفعيل دور حلف شمال الأطلسي، وتعزيز المبادرات الإقليمية والدولية ذات الصلة بالاستراتيجية الأمريكية في العراق، دون أن تنجر إلى التورط في الشأن العراقي كثيرا.
خاتمة.
في عام 2019، خرج العراقيون إلى الشوارع مطالبين بحياة أفضل. ويجب على الولايات المتحدة ألا تقف هذه المرة مكتوفة الأيدي إزاء طموحات العراقيين، بل يجب عليها مساعدتهم لدعم الحكم المدني والتقدمي.
وتملك الولايات المتحدة عدداً من أدوات النفوذ التي يمكن أن تستخدمها في العراق، أذا ما أرادت التاثير في المشهد الانتخابي العراقي القادم، إذ إن الوجود المحسوس للأميركيين، سواء كان السفارة أو الجنود الأميركيين، مطلوب لإظهار مدى التزام واشنطن لمساندة الحكومة العراقية برئاسة الكاظمي، عن طريق تعزيز قدرتها على توفير الأمن والخدمات الأساسية للشعب العراقي، ودعم الحكم المدني والتقدمي كي يحصل على مزيد من الشرعية وللمساعدة على تأمين استقرار العراق. وبمعزل عن حلفاء إيران المتحمسين في بغداد، الذين يتمنون طرد الولايات المتحدة إلى خارج العراق، يفضل بعض القادة السياسيون العراقيون الوجود الأميركي لمعادلة كفة النفوذ الإيراني. وحتى رجل الدين، مقتدى الصدر، الذي حارب أتباعه ضد الولايات المتحدة، فإنه يفضل اليوم بقاء النفوذ الأميركي في العراق لتجنب السيطرة الكاملة الإيرانية على البلد.
وثمة أداة أخرى هي العقوبات التي استخدمتها إدارة الرئيس السابق، دونالد ترامب، بصورة متكررة. وهذه العقوبات تعد مؤشراً إلى من ستعمل معه واشنطن ومن لن تعمل معه. وأي شخص تصنفه الولايات المتحدة كزعيم ميليشيا، يمكن أن تنتهي طموحاته السياسية، وتمنعه من دخول الحكومة وتسلم السلطة.
د. خالد هاشم
مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية