د. خالد هاشم/ مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية
مقدمة:
لم تدم الحرب على العراق أكثر من شهر واحد، ولكن التداعيات والنتائج التي خلفتها تلك الحرب لا تزال قائمة إلى يومنا هذا، تاركة العراق والعراقيين منقسمين وغير واثقين من مستقبلهم المجهول الذي ينتظرهم ومن الماَل الذي سيأخذهم اليه سياسييهم المنشغلون بمصالحهم ومطامعهم الضيقة.
كان غزو العراق حدثا مصيريا لم يقلب المعادلة السياسية العراقية الداخلية فحسب، وإنما قلب المعادلة الإقليمية بكاملها. لقد مكنت دولا وجهات فاعلة معينة، وأضعفت دولا أخرى. بعد عشرين عام من احتلال العراق، لا يزال الباحثين والمحللون السياسيون يناقشون ويتسألون عن ما الذي تحقق للعراق وللمنطقة؟، ما الذي يمكن أن تفعله الولايات المتحدة الاَن بعد عشرين عام من الإدراك المتأخر؟، وإلى أي مدى كانت اَثار تلك الحرب بعيدة المدى؟، ما يحتاجه العراق اليوم هو إلى أن يقف الكثير من قادته وقياداته لعمل مصالحة وطنية، ودستور جديد، واقتصاد أقل اعتماد على عائدات النفط، ما الذي يتطلبه الأمر اليوم لكي يتحول العراق إلى لاعب إقليمي مزدهر ومنتج؟.
كل ذلك سنحاول الإجابة عليه عبر كشف حساب لجميع الملفات الداخلية والخارجية التي اَثارها ذلك الغزو منذ عشرين عام وما يزال يثيرها اليوم.
أولا: قضية نشر الديمقراطية.
قبل عشرين عام، غزت الولايات المتحدة العراق، ووعدوا بإسقاط النظام الدكتاتوري لصدام حسين وبناء عراق ديمقراطي جديد ومزدهر. لقد نجحوا في إسقاط صدام حسين بسرعة، لكن خلق عراق ديمقراطي ثبت أنه أكثر صعوبة من إسقاط نظام صدام، ما حصل بعد عام 2003 كان نظاما سياسيا يقوم على الفساد والمحسوبية والقمع الذي يذكرنا أحيانا بعنف النظام السابق. نظاما أطلق العنان لصراع طائفي دموي في العراق ساهم في تقويض سمعة الديمقراطية في المنطقة ومصداقية الولايات المتحدة في الترويج لها.
نظريا، بدا العراق بعد العشرين عام الماضية وكأنه ديمقراطي، حيث أجرى خمس انتخابات عامة وشهد خمس عمليات تسليم سلمي للسلطة بين الأحزاب السياسية المختلفة، لكن ذلك لم يغير شيء من الواقع الذي يعيشه العراق اليوم) (
من جانب أخر، وعلى مستوى دول الشرق الأوسط، فلا تزال الثقة منعدمة ما بين السلطة الحاكمة والمواطنين والتي هي أيضا كانت أحد الاسباب التي عجلت باحتلال العراق، بين مواطنوا المنطقة المتعلمين والمتطلعين للتواصل مع العالم الاخر ولهم تطلعات سياسية للقرن الحادي والعشرين، فلا يزالوا يحكمون من قبل مستبدين غير خاضعين للمساءلة. وبالتالي في غياب التغيير المنشود، ستستمر حالة عدم الثقة والاحتكاكات ما بين الطرفين في تشكيل التطورات السياسية في المنطقة، وغالبا ما ستكون بطريقة كارثية، على مدى العقود القادمة.
لقد أدى أخفاق الإدارات الأمريكية في العراق على مدى العقدين الماضيين، إلى انتكاسة خطيرة لقضية الديمقراطية في المنطقة، فقد بات في مخيلة مواطني دول المنطقة، أن الديمقراطية مرادفة لممارسة القوة العسكرية الأمريكية، فقد ساهمت حالة الفوضى في العراق نتيجة الممارسة المشوهة للديمقراطية في تعزيز قبضة الحكام المستبدين في المنطقة والذين كان حكمهم غير كفوء أو ثقيل اليد إذا ما تم النظر اليه ومقارنته بالذي يحصل في العراق من انهيار للنظام والجرائم التي ترتكب نتيجة للاقتتال الداخلي.
الإحباط الذي اصاب مواطني دول المنطقة من رؤسائهم المستبدين تحول إلى ما سمي بالربيع العربي في عام 2011، لكن احتجاجات مواطني تلك الدول فشلت في إنهاء الاستبداد في المنطقة. كان ملوك وأمراء الخليج قادرين على ضخ الأموال الضخمة لتدعيم حكمهم أولا ومساندة الأنظمة الحليفة الاخرى لهم في المنطقة ثانيا. فلم تصمد التجربة التونسية ولم تدم التجربة الديمقراطية في مصر طويلا وتراجعت الديمقراطية في لبنان.
والنتيجة بعد عقدين من احتلال العراق والتبشير بالديمقراطية الغربية، فلا تزال الفجوة متسعة بين ما يريده مواطن هذه المنطقة وبين ما يحصل عليه من حكومته، وهناك مؤشرات على أن دول المنطقة لم تعد مستقرة سياسيا أو اقتصاديا أو حتى محكومة بشكل فعال أو خاضعة للمساءلة أو تشارك مواطنيها. وما لم يعالج حكام تلك الدول هذه الفجوة، فمن المحتمل حدوث المزيد من الاحتجاجات الشبيهة بالربيع العربي.
ثانيا: المشاكل البيئية.
على مدار العقدين الماضيين، أصبح العراق أحد أكثر خمس دول عرضة للتغير المناخي، ساهم في ذلك ارتفاع درجات الحرارة وعدم كفاية وتناقص الأمطار وتزايد حالات الجفاف والعواصف الرملية والترابية. في تقرير لمجلة الأيكونومست البريطانية عن التغير المناخي في منطقة الشرق الأوسط، يشير التقرير إلى أن درجة الحرارة في محافظة كمحافظة البصرة قد وصلت إلى (53،9)، وهو رقم يتفوق على مدن قريبة منها في منطقة الخليج، مما جعل محافظة البصرة تحتل المرتبة الثانية بأعلى درجات الحرارة في العالم. كما أشار تقريرأخر إلى أن العواصف الرملية في العراق قد زادت من 120 إلى 300 عاصفة في العام الواحد، وأن تلك الظروف المناخية قد تتسبب بمقتل الأف الاشخاص مما يجعلها قاتل أكبر من الحروب ذاتها( ).
ورغم أن نظام المحاصصة وتقاسم السلطة الذي تم أقراره بعد احتلال العراق، ليس السبب الوحيد لتلك المشاكل البيئية التي يعانيها العراق، إلا أنه فاقم وساهم في ثقافة الفساد والمحسوبية السياسية التي قوضت الجهود المبذولة لحماية البيئة وإدارة الموارد الطبيعية في العراق على نحو مستدام. نظام المحاصصة أدى إلى حالة يتم فيها تعيين بعض المسؤولين الحكوميين في مناصبهم دون النظر إلى مهاراتهم أو مؤهلاتهم اللازمة لإدارة الموارد بكفاءة أو فعالية.
شجعت الموازنات الضخمة نظام المحاصصة على إساءة استخدام الموارد الطبيعية لصالح تحقيق مكاسب سياسية أو شخصية، مما ألحق ضررا مباشرا بالمواطنين العاديين، بينما كان هدف المحاصصة هو تعزيز الاستقرار السياسي ومنع تهميش الأقليات، لكنها ساهمت عمليا في ثقافة الفساد والمحسوبية، وقوضت الجهود المبذولة لتعزيز الحكم الرشيد والتنمية المستدامة.
ثالثا: سيادة الدول.
قام النظام الدولي ومنذ القرن السابع عشر على مفهوم السيادة، وأن الدولة هي الجهة الوحيدة التي تحتكر لنفسها حق استخدام القوة داخل أراضيها المعترف بها، ويحظر عليها التدخل في الشؤون الداخلية للدول الاخرى. مثل التدخل العسكري الأمريكي في العراق تحديا لذلك المفهوم الذي ساد طيلة تلك المدة ومن عدة جوانب:
1- مثلت حالة الحرب على العراق انتهاكا مباشرا لسيادة الدولة العراقية، فبينما وصفت إدارة بوش الابن الحرب، بأنها حرب استباقية للدفاع عن النفس، إلا أن الأمر كان ينظر اليه على نطاق واسع بأنه حرب اختيار ضد دولة لا تشكل خطرا واضحا وقائما، وهكذا وجهت الولايات المتحدة ضربة قاسمة للنظام الدولي القائم على تلك القواعد والتي كانت هي أحد مهندسي ذلك النظام في حينه. قد يكون ذلك قد شجع حالات العدوان اللاحقة بشكل أكبر وأوسع من ذي قبل( ).
2- شجعت حالة الحرب الأمريكية على العراق وافغانستان إلى تنشيط الصناعة العسكرية نتيجة للفترة الطويلة لتك الحربين، وأصبحت الولايات المتحدة معتمدة بشكل أكبر على المتعاقدين العسكريين وحتى أحيانا المدنيين المدفوع لهم للمشاركة في القتل، مما ساهم في توليد صناعة بمليارات الدولارات وجدت لتبقى. وبمرور الوقت شجع ذلك في انتشار الشركات العسكرية الخاصة. مما قوض أدعاء الدولة الحصري لاستخدام العنف وهو ما اثر على أسس النظام الدولي القائم.
3- ساهمت نتائج الحرب الوخيمة على العراق في تمكين الجهات غير الحكومية في منطقة الشرق الأوسط وخارجها في شن هجمات مباشرة على سيادة الدول، وهو ما مثله تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام وسط التنافس الشرس على السلطة في عراق ما بعد الغزو، جعل “الخلافة” كمؤسسة سياسية سنية التي أقامتها تلك الجماعات المتطرفة بديلة لمنافسة الدولة القومية. وبينما تم احتواء ذلك التهديد الارهابي في منطقة الشرق الأوسط، إلا أنه بدء في النمو في القارة الأفريقية، أضف إلى ذلك فبفعل التمكين الإيراني في الحرب على العراق، تمكنت الجماعات المرتبطة بإيران غير الحكومية من تقويض أيضا سيادة الدولة في لبنان وسوريا واليمن والعراق ذاته.
والنتيجة بعد عقدين من غزو العراق، ترك لنا ذلك الغزوعالما يحظى فيه باحترام أقل لسيادة الدولة، وتفشي الأسلحة والمتاجرة بها، ومجاميع مسلحة متعددة ومتنوعة خارج سلطة الدولة.
رابعا: المعادلة الإقليمية.
إيران: ساهم تجاهل الإدارات الأمريكية عن عمد وضع استراتيجية واضحة ومناسبة لإعادة بناء الدولة العراقية بعد عام 2003، في ترك فراغا في السلطة مكن إيران من ملأه. مع الإطاحة بنظام صدام حسين تمكنت إيران أخيرا من هزيمة عدو لم تستطع الإطاحة به من خلال حرب الثمان سنوات (أكثر الحروب دموية في المنطقة)، مهد ذلك لكي تمارس إيران تأثيرها على القادة الشيعة العراقيين الذين اعتمدوا ولمدة طويلة على الثيوقراطية الإسلامية في الدولة المجاورة لبلدهم. مكن ذلك إيران من التسلل إلى المؤسسات السياسية العراقية وحقق لها ذلك هدفين: منع الولايات المتحدة من استخدام الأراضي العراقية كمنصة لضرب إيران، وردع التهديدات المستقبلية للدولة العراقية إذا ما استعاد العراق يوما عافيته( ).
على المستوى الإقليمي، مكن العراق إيران من أن يكون لها جسرا استراتيجيا لشبكتها في سوريا ولبنان في مجال توصيل الأسلحة والأموال لنظام استبدادي في سوريا ودولة مشلولة في لبنان.
النتيجة بعد عقدين من ذهاب الولايات المتحدة لتحرير العراق من سلطته الاستبدادية، خلقت الولايات المتحدة فراغا وراءها في الحكم ونظام بديل كان أقل بكثير مما تريده واشنطن للعراق. وفي نفس الوقت يواصل النظام الإيراني التركيز على أيديولوجيته المعادية للولايات المتحدة وهو يقترب من طموحاته السياسية مع فشل نظام العقوبات عليه حتى الأن.
تركيا: أضرت الحرب ومن قبلها العقوبات الاقتصادية على العراق بالمصالح التركية، على الرغم من انتعاشها بعد العام 2005 فصاعدا. كذلك ساهمت علاقة الجيش الأمريكي بحزب العمال الكردستاني بالموافقة الضمنية على شن الحزب هجمات من شمال العراق على تركيا بالرغم من الوجود الأمريكي هناك، وبعد ذلك مع استخدام فرع حزب العمال الكردستاني في سوريا كقوة بالوكالة ضد تنظيم “داعش”.
لا شك أن تدريب وتجهيز وتشغيل ميليشيات مرتبطة بحزب العمال الكردستاني على طول الحدود التركية اليوم من قبل الولايات المتحدة هو ثمرة الحرب على العراق عام 2003، لأن الاتصالات ما بين الحزب وواشنطن تمت ترتيباتها من شمال العراق ومن دون اكتراث الولايات المتحدة بالخطوط الحمراء الأمنية التركية. من جهة أخرى، فإن الخلاف التركي الأمريكي يعود في جزء منه إلى وصول قيادة حزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان إلى السلطة، وقد عمقت حالة الغزو الأمريكي للعراق من ذلك الخلاف وأثرت على قرارات تركيا اللاحقة بشكل كبير.
لقد تلاشت العديد من اَثار حرب العراق، لكن الخلافات الاستراتيجية التركية الأمريكية لم تتلاشى.
خامسا: نفوذ الصين.
قبل عقدين من احتلال العراق، كانت الصين تعتبر من أهم أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، ولكن بعد أحداث 11سبتمبر، أصبحت الحروب التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، هي محور الاهتمام الأمريكي، وبينما خفف ذلك من الضغط الأمريكي على الصين من جهة، أثار قرار غزو العراق مخاوف جدية في بكين بشأن اتجاه النظام الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية.
أن أصرار الولايات المتحدة مواجهة حكومات ذات سيادة بهدف معلن وهو تغيير نظامها يشكل سابقة مقلقة للحكومات الاستبدادية، كانت الحرب على العراق قبل عقدين مقلقة للقادة الصينيون، قلة هم الذين اعتقدوا أن الولايات المتحدة سوف تخوض غمار تلك الحرب الكارثية من أجل هدف مثالي وهو الترويج للديمقراطية في الشرق الأوسط، كان الافتراض السائد في بكين أن الحرب كانت تدور حول السيطرة على النفط العالمي، واستخدام تلك الهيمنة لمنع الصين من الارتقاء إلى مرتبة المنافس الند للولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية. كان الاعتقاد السائد في بكين يدور أيضا حول أن من يسيطر على طريق ملقا أو ما سمي “بمعضلة ملقا”( )، فإنه سوف يتحكم بشحن النفط إلى الصين، وبالتالي اقتصادها. منذ ذلك الوقت، طورت الصين أكبر قوة بحرية في العالم واستثمرت في الموانئ عبر منطقة المحيط الهندي من خلال مبادرة طريق الحرير البحري وزادت من إنفاقها الدفاعي خمس أضعاف ( من 50 مليار دولار في عام 2001 إلى 270 مليار دولار في عام 2021) مما جعلها ثاني أكبر ميزانية دفاعية في تلك المنطقة بعد اليابان) (.
النتيجة بعد عقدين من احتلال العراق، أصبح الشرق الأوسط محط تركيز أكبر في السياسة الخارجية الصينية، بالإضافة إلى بناء جيشها الخاص، بدأت الصين في مناقشة الشؤون الأمنية والاستراتيجية مع موردي الطاقة في الشرق الأوسط، وإجراء تدريبات مشتركة، وبيع أنظمة أسلحة أكثر تنوعا، والتجرء على قيادة وساطات إقليمية لم تكن لتفكر بها بكين من قبل، كالوساطة الأخيرة بين إيران والسعودية، وهي التي حرصت من قبل على القول دائما أن محور أهتمامها العالمي هو الاقتصاد وليس منافسة الولايات المتحدة سياسيا في مناطق نفوذها.
هل كان الوجود الصيني المتنامي في منطقة الشرق الأوسط سيتبع نفس المسار لو لم تقدم الولايات المتحدة على احتلال العراق قبل عقدين؟، ربما، على الرغم من أن المرء قد يجادل بإن ذلك لم يكن ليحصل بنفس الطريقة الملحة التي تقوم بها بكين اليوم.
ما الحل أو الحلول التي ينتظرها العراق اليوم؟.
أولا: مصالحة وطنية شاملة.
أحد أهم الأخطاء الكارثية في احتلال العراق عام 2003، هو تفكيك مؤسسات الدولة وإضعاف السلطة المركزية. خلق هذا الاختلال الهيكلي في السلطة حالة لدى المواطن العادي تتمثل في العودة إلى الولاءات القبلية والدينية والعرقية، مما ساهم في تفتيت الدولة القومية وسيادة الخطاب الطائفي والانقسامات والتوترات بين طواءف البلد الواحد.
على مدى العقدين الماضيين زاد التباعد بين الجماعات المتصارعة وأصبحت أكثر شهية على تقاسم المناصب السياسية، وموارد البلد النفطية الضخمة، والتحيزات الإقليمية بدلا من السعي الجماعي لإعادة بناء دولتها المنقسمة على ذاتها. ويبدو أن الشباب العراقي الذي شارك في حملة “نريد وطن” اثناء تظاهرات تشرين 2010، قد فهم الدرس وما تفتقده النخب السياسية لتحقيق المصالحة الوطنية.
النخب السياسية الحاكمة اليوم التي تدرك هشاشة الوضع الداخلي وانقساماته وعدم استقراره، تتظاهر بأن زمن الحرب الأهلية قد ولى وأنتهى، ولكن المراقب والمتتبع لبؤر التوتر في العراق في السجون ومناطق الاحتكاك والتماس والخلاية النشطة للأرهاب في بعض الخواصر الضعيفة يثبت له العكس تماما.
من الأمثلة الكامنة والمرشحة للأنفجار، التي لا تزال قائمة في العراق، تظاهر مواطنو السنة في أعقاب الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام(داعش)، بأن مقاتلي داعش جاءوا من جهات أجنبية وهمية ورفضوا مواجهة حقيقة أن معظمهم، بما في ذلك قائدهم عراقي المولد والنشئة، حتى أن العديد ممن شارك مع ذلك التنظيم في حينه أنخرط فيما بعد بمشاريع الوحدة الوطنية.
حالة فقدان الاتزان التي شعر بها المواطنون السنة بعد عام 2003، نتيجة لفقدانهم السلطة بشكل مفاجئ، لصالح طرف شيعي سعى هو بدوره أيضا بدلا من الانخراط في مصالحة حقيقية وهادفة، سعى للعمل على ترسيخ نظام المحاصصة المقيت مما ساهم في تفاقم المشاكل الاجتماعية وبروزها إلى السطح علانية. وهناك أيضا أمثلة ليست ببعيدة عمن ساء فهمهم باستمرار، بما في ذلك الأكراد والاَشوريين والتركمان والمندائيين) (.
أن الطريق الوحيد والذي لا حياد عنه لكي تعود البلاد لحالتها الصحيحة والسليمة، هو أن تنخرط تلك الأطراف جميعا في عملية مصالحة عبر تنازلات قاسية ومؤلمة لا غنى عنها، يتم من خلالها تحديد المسؤوليات وتحقيق العدالة.
ثانيا: إعادة الاعتبار للأقليات العراقية.
كان أحد نتائج احتلال العراق، هو تأثيره الضار على الأقليات العراقية العرقية والدينية المتنوعة التي تشكل الفسيفساء العراقية، هذا التنوع والتراث الغني العراقي ممكن أن يفتح مستقبلا أكثر إشراقا للأمة العراقية، أن تمكن النظام السياسي الحالي من التعرف عليه وتمثيله. لقد وجدت الإقليات العراقية نفسها مهمشة من قبل النظام السياسي عبر عدد قليل من المقاعد التمثيلية في البرلمان، فضلا عن تهميشها من قبل الدولة ذاتها في رسم التصورات المستقبلية للبلاد. لقد هاجر الكثيرون منهم ويقيمون الأن في الشتات، مما ساهم في تغيير التنوع العراقي العرقي والديني في عراق ما بعد عام 2003.
لقد تجاوز خسائر العراق الثقافية نتيجة للحرب من تدمير الاَضرحة والمتاحف ونهب التحف والمباني، تجاوزه استبعاد مجتمعات الأقليات من عمليات بناء الأمة. هذا هو الوضع الكارثي للعراق بعد عام 2003، الذي ينبع تفرده وقوته وثقافته من تأريخه الثقافي وتقاليده الدينية والفنية والموسيقية واللغات التي ساهمت جميعا في أثرائه وتطوره. لا شك أن هذا التراث يستحق الحماية والاحتفاء به.
حتى يأتي اليوم الذي يتم فيه إنهاء نظام المحاصصة الطائفية ويكون العراق قادرا على الأزدهار والتطور، يجب حماية حقوق تلك الأقليات وإدراجها في عملية صنع مستقبل العراق، ومع ذلك لا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال حماية الحقوق السياسية لهذه المجتمعات في الحياة السياسية العراقية من خلال زيادة المقاعد التمثيلية لها في البرلمان والتمثيل القانون لها أيضا. يجب أن يكون هناك استثمار في المناطق التي دمرها الأرهاب واعطائها التعويض الذي تستحقه وتوفير الحماية لها ولأضرحتها وتراثها.
صحيح أنه لا يمكن محو عشرين عام من التهميش والفساد والعنف والهجرة القسرية للعديد من الأقليات، لكن ممكن أن تكون هذه الذكرى بمثابة نقطة تحول لنوع العراق الذي يريده العراقيون جميعا. هناك أمل كبير في جيل جديد من العراقيين يطالب برؤية وطنية جديدة، ووضع حد للمحاصصة، والمزيد من الحقوق المدنية والسياسية، مع أن تكون جميع الطوائف العراقية جزءا من كل ذلك.
أن عراقا أكثر تنوعا يشيد ويفتخر باختلافه يمكن أن يكون القوة الرافعة لتوحيد البلاد.
ثالثا: إعادة كتابة الدستور.
إذا كان كتابة الدستور العراقي عام 2005 يعد أنجازا، فإن ذلك الدستور قد تراكمت وزادت الشكاوى عليه بفعل نظام المحاصصة الذي ساهم في تقاسم الأحزاب السياسية المناصب الوزارية مما عجل بفشل الحكومة العراقية في تقديم الخدمات للمواطن العراقي عبر الكهرباء والماء والبنى التحتية والفساد الأداري والمالي وعدم القدرة على توفير الفرص الاقتصادية للشباب العراقي، مما وصل الحال بالعراق إلى احتجاجات 2019 التي راح ضحيتها أكثر من 600 مواطن عراقي) (.
من غير المحتمل أن يتم تحقيق إصلاح دستوري حقيقي في العراق بشكل مباشر من خلال البرلمان الحالي، بالنظر إلى مصالح الأحزاب السياسية العراقية وحاجة البرلمان إلى التركيز على المسؤوليات التشريعية. خلافا لذلك، يجب التركيز على المجتمع المدني العراقي بما في ذلك العلماء ورجال الدين ورجال الأعمال والمسؤولون الحكوميون والمحامون وذوي الخبرة القانونية- أن يشرعوا في مناقشات جادة وحقيقية حول الإصلاح الدستوري، فلم يتم سماع تلك الأصوات عند كتابة دستور عام 2005. يمكن أن يكون للمؤسسات والجامعات ومراكز الدراسات الدولية دور في تقديم خبراتها الخارجية لا سيما في مجال القانون الدستوري المقارن. لكن يجب أن يكون كتابة الدستور بقيادة عراقية خالصة. يجب أن لا يكون للدول التي تملك نفوذا في العراق دورا كبيرا في كتابة الدستور، يجب أن يقتصر دورها على دعم وتشجيع الجهود الوطنية التي يقودها أبناء العراق في ذلك، دون المحاولة للتوسط في نتيجة معينة.
أن الظروف الداخلية العراقية اليوم غير مشجعة وغير واضحة نحو إصلاح دستوري شامل، لكن هناك طريقة للإصلاح التدريجي. قد يؤدي سن دستور عراقي جديد معد بشكل صحيح إلى دفع العراق نحو مستقبل أفضل.
رابعا: نحو اقتصاد عراقي متنوع بعيدا عن النفط.
منذ عام 2003 صاحب الاقتصاد العراقي اختلالات هيكلية كبيرة، فقد زاد الاعتماد على الإنفاق الحكومي بشكل مباشر من خلال توفير السلع والخدمات وكان هذا الإنفاق يعتمد بشكل كبير جدا على عائدات النفط المقلبة التي لم يكن للحكومة العراقية سيطرة عليها، ومع ذلك كان الإنفاق يعتمد على أسعار النفط المتزايدة باستمرار.
كما هو معروف مع الوعود الحكومية المتتالية لم تستطع تلك الحكومات من تطوير اقتصاد لا يعتمد على الدور الريعي للدولة العراقية التي صاحبها منذ تأسيسها، ساعد هذا الدور الميراثي للدولة كموزع لثروة البلاد النفطية على الرضوخ الاجتماعي لحكمها.
لقد كان ثم فرصة حقيقية أتيحت للنظام السياسي العراقي لتصحيح المسار الاقتصادي من خلال ثلاث أزمات اقتصادية ومالية كبرى، كل واحدة منها كانت أشد من سابقتها وكلها كانت نتيجة لانهيار أسعار النفط: الأولى من 2007-2009، بسبب الأزمة المالية العالمية، في 2014-2017، بسبب الصراع مع التنظيم المتطرف (داعش)، وفي عام 2020، لكن من المفارقات أن أزمة كوفد 2019، قد ساهمت في انتعاش أسعار النفط مما أنعكس ايجابا على العراق) (.
في الذكرى العشرين لغزو العراق، يخطط النظام السياسي العراق- المدعوم بوفرة أسعار النفط المرتفعة، ولكن غير المستدامة- لميزانية من المتوقع وكما صرح بذلك أن تكون هي الأكبر في تاريخ ميزانيات العراق. لكن لن يؤدي ذلك إلا إلى تعميق الخلل الهيكلي للاقتصاد العراقي وتناقضاته الأساسية، وبالتالي إلى مزيد من الاضطرابات إذا ما تسبب انهيار النفط في حدوث أزمة اقتصادية ومالية أخرى.
حتى إذا بقيت أسعار النفط مرتفعة، فإن الضغوط الديموغرافية للبلاد ستخلق في الوقت المناسب الظروف لأزمة عميقة متجددة.
خامسا: يجب التركيز على الشباب والتعليم.
مع حلول الذكرى العشرون لغزو العراق، فلا تزال التهديدات الأمنية مستمرة، خصوصا من قبل تنظيم الدولة الأسلامية، وهي أولوية بالنسبة للعراق والولايات المتحدة الأمريكية. وفي نفس الوقت تميل المساعدات الأمريكية للعراق إلى التركيز على القضايا قصيرة الأجل، ممكن أن تكون تلك المساعدات الأمريكية مفيدة، لكن الاستمرار في سبل الدعم التقليدية ليس حلا مستداما لإعادة بناء العراق.
يجب على الولايات المتحدة والمجتمع الدولي البدء في سبل التركيز على الحلول طويلة الأمد التي تتناول الأمن البشري، والتنمية، والبنية التحتية، والتعليم، والاقتصاد. وفي قلب كل ذلك يجب أن يكون هناك قضيتان محوريتان يكون التركيز فيهما عالي ويكونان نقطة محورية للسياسة وهما الشباب والتعليم.
في تقرير لليونسيف صدر عام 2019، أن 60% من سكان العراق دون سن ال(25). لا تزال مستويات التعليم والوصول إلى التعليم في العراق من بين أدنى المستويات في المنطقة. وبالتالي يمكن وضع هاتين الحقيتين كفرصة حقيقية وفريدة من خلال وضع شريحة كبيرة من الشباب في بؤرة مستقبل العراق من خلال سياسة تزيد من عدد المتعلمين وتدربهم، وتضمن ظروفا تعليمية صحية ومختصة) (.
لا شك تتجاوز فوائد الاستثمار طويل الأجل في النظام التعليمي في العراق والشباب مجرد تعليم مواطنيهم: ستكون الخطوة الأولى في إطلاق العنان للإمكانيات البشرية العراقية. المزيد من الأطباء يعني المزيد من الجودة والوصول إلى الرعاية الصحية، وستتضمن زيادة المهندسين استمرار تطوير البنية التحتية للبلاد المتهالكة، سيساعد قادة الأعمال في تنمية الاقتصاد. المزيد من التعليم يعني المزيد من المهنيين المؤهلين.
لإعادة بناء العراق حقا اليوم وبعد عشرين عام من احتلاله، لم يعد بإمكان الولايات المتحدة والمجتمع الدولي النظر إلى البلاد على أنها قضية أمنية فقط. بدلا من ذلك، يجب أن ينظر إلى هذه اللحظة على أنها فرصة لتمكين الشباب العراقي، الذين يأملون في قيادة إعادة بناء بلدهم، مما يمنحهم فرصة عادلة لانهم يستحقون ذلك.
المصادر
1-Renad Mansour, Why Iraqi Democracy Never Stood a Chance: The Roots of the Corrupt Order That Replaced Saddam, foreign Affairs,March 20, 2023, At: https://www.foreignaffairs.com.
2- صادق علي حسين، التهديدات البيئية وأثرها على واقع الأمن الإنساني في العراق، مركز البيان للدراسات والتخطيط، 25/9/2016، متاح على موقع المركز.
3- خلف رمضان محمد، الشرعية الدولية والموقف من احتلال العراق، مجلة الرافدين للحقوق، العدد(40)، 2009، ص46.
4- علي رضا نادر، الدور الذي تضكلع به ايران في العراق: هل من مجال للتعاون بين الولايات المتحدة الامريكية وايران؟، مؤسسة راند، مركز سياسات الدفاع والامن الدولي، ص6-7.
5- مضيق ملقا هو مضيق يمتد بطول 805 كم (500 ميل)، ما بين شبه جزيرة ماليزيا (غرب ماليزيا) وجزيرة سومطرة الإندونيسية. وقد سمي المضيق على اسم سلطنة مالاكا والمتبقي منها حاليا ولاية ملقا، ماليزيا، رابطاً بحر أندمان (المحيط الهندي) وبحر الصين الجنوبي (المحيط الهادي). وبصفته ممر الشحن الرئيسي بين المحيطين الهندي و الهادي، فهو أحد أهم ممرات الشحن البحري في العالم.
6-What Does China Really Spend on its Military?, At: https://www-csis-org.translate.goog.
7- Sarhang Hamasaeed, Iraq Timeline: Since the 2003 War, The United States Institute of Peace, Friday, May 29, 2020 At: https://www.usip.org.
8- مظاهرات في “التحرير”.. العراقيون يحيون الذكرى الثانية لـ”ثورة تشرين”، 1/ أكتوبر/ 2021، متاح: https://www.alhurra.com.
9- Kirk H. Sowell, Iraq’s Dire Fiscal Crisis, Carnegie Endowment for International Peace, November 02, 2020, At: https://carnegieendowment.org.
10- التعليم في العراق، اليونسيف، متاح: https://www.unicef.org/iraq