ظلت منطقة الشرق الأوسط تعتبر من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم بالنسبة للولايات المتحدة الامريكية حتى وقت قريب، نظراً لموقعها الاستراتيجي ولما تتميز به من ثروات طبيعية، أهمها النفط والغاز الطبيعي، اللذين يعتبران من أساسيات حياة البشرية على كوكب الأرض في العصر الحديث، إضافة إلى الممرات البحرية الأساسية التي تصل بين الشرق والغرب، من هنا جاء الاهتمام الامريكي بهذه المنطقة الحيوية من العالم
- وقد تمحورت الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط حول مجموعة من الأهداف لعل من أهمها:
1_ تدفق النفط بأسعار مناسبة. يوجد في منطقة الشرق الأوسط أكبر مخزون نفطي في العالم يفي بحاجة الولايات المتحدة من الطاقة اللازمة لتفوقها العسكري والاقتصادي والسياسي، لهذا تحرص واشنطن على تدفق النفط من الشرق الأوسط وبأسعار مناسبة.
وتطلبت سياسة الهيمنة على النفط ضرورة التدخل في شؤون منطقة الشرق الأوسط، واعتبرت الولايات المتحدة منظمة أوبك المصدرة للنفط مصدر تهديد لاقتصاديات السوق الحر ورأت ضرورة الحد من تأثيرها من خلال الضغط على الدول النفطية لتقوم بتعديل سياستها النفطية بما يتواءم ومصالح الولايات المتحدة.
2_ استقرار الأنظمة الصديقة. حرصت الولايات المتحدة على أبقاء علاقات الصداقة مع الأنظمة السياسية في الخليج العربي ومصر والأردن والمغرب، وتحرص تلك الدول على إرضاء المطالب السياسية الأمريكية بالمنطقة فتقابلها واشنطن بالتأييد والمساندة.
5_ اَمن إسرائيل. اهتمت الولايات المتحدة طويلاً بأمن إسرائيل لأنها الدولة الوحيدة التي تمارس الديمقراطية الغربية ومنحازة للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، لهذا تعمل الولايات المتحدة على تثبيت هذه الدولة وتهيئة الظروف مع العرب والمسلمين لإنهاء حالة الصراع العربي الإسرائيلي وإقامة سلام دائم في المنطقة. كما تلعب إسرائيل بحكم موقعها الجغرافي في المنطقة كحارس استقرار للأنظمة القائمة وفي منع أي تحول راديكالي أو ديني قد يضر بمصالحها ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
وفي الحقيقة ومنذ تولى باراك اوباما سدة الرئاسة في كانون الثاني من عام 2009، بدأ الاهتمام الامريكي بمطنقة الشرق الاوسط في التراجع والانحسار، وتبدلت الاولويات والاهداف، فقد ترك الرئيس بوش لخلفه الرئيس أوباما أوضاعا دولية متردية، خلفتها سياساته تجاه القضايا الدولية المختلفة وفي مقدمتها الحرب على كل من العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب، وبدأت تظهر ملامح مرحلة جديدة شعارها “التغيير” وقد تعززت تلك الرؤية بالانسحاب من الشرق الاوسط اكثر وظهرت بصورة جلية في الفترة الثانية من حكم باراك اوباما.
- الشرق الاوسط في مؤسسات ودوائر الفكر الامريكية.
في الحقيقة لا يمكننا ان نفهم الافكار التي دفعت بالولايات المتحدة الامريكية الى التفكير بالانسحاب من الشرق الاوسط، دون الرجوع الى مجموعة من المفكرين وصناع الرؤي في الولايات المتحدة الذين دعوا الى ذلك الانسحاب وتقليل دور الولايات المتحدة الامريكية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
فعلى سبيل المثال، فقد تأثر الرئيس باراك أوباما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، بمجموعة الأفكار التي طرحها ستيفن والت، الأستاذ بجامعة هارفارد، حول السياسة الأمريكية تجاه هذه المنطقة، ويرى ستيفن والت أن الشرق الأوسط في منتصف ثورة عميقة، لا يزال مسار مستقبلها غير محدد، والصراع فيها يدور من خلال خطوط عديدة، كالسنة ضد الشيعة، والعرب ضد الفرس، والعلمانية ضد الإسلام، والديمقراطيين ضد السلطويين.. الخ. وفي إطار هذا الموقف المتشابك وغير المفهوم، فإن آخر ما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية هو ان تحاول القيام بدور الحكم، أو أن تحاول فرض رؤيتها السياسية المفضلة على تلك الأحداث، وأن الإستراتيجية الأفضل للولايات المتحدة في المنطقة يجب أن تقوم على تقليل وجودها بها، وإنشاء نظام لتوازن القوى (Balance of power) بين القوى الإقليمية. ويشير والت إلى أن هذه هي السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة في الفترة من 1945 الى 1990، حي لعبت دور الموازن أو المعادل الخارجي في الإقليم. وبالتالي يرى والت أن الحل الواضح للولايات المتحدة هو ان تعود الى هذه الإستراتيجية المتعلقة بتوازن القوى وترك المنطقة لتدير شؤونها بنفسها.
كما وشبه البعض حال الشرق الاوسط اليوم، بفترة حرب الثلاثين عام التي شهدتها اوربا، والتي دارت رحاها في الفترة من 1618 الى 1648، ففي كتابه الاخير عن النظام الدولي، يتحدث “هنري كيسنجر” وزير الخارجية الامريكية الاسبق عن هذا التشابه، خاصة التدخل بين النزاعات الدينية والسياسية، والتي ادت لحروب راح ضحيتها الاف البشر، وبالتالي فان استمرار هذا الوضع في الشرق الاوسط سيؤدي الى اشتعال المواجهة فيه على غرار الحروب الدينية التي سادت اوربا في القرن السابع عشر.
ونشر ايضا “ريتشارد هاس” رئيس مجلس العلاقات الخارجية الامريكي، مقالا حول هذا الموضوع، ذكر فيه ان الشرق الاوسط يعيش الان المراحل المبكرة من النسخة المعاصرة من حرب الثلاثين عام، حيث تعمل الولاءات الدينية والسياسية على تأجيج الصراعات داخل الدول وفيما بينها. وذكر هاس ان المنطقة مهيأة للمزيد من الاضطرابات، فمعظم شعوبها ضعيفة في قدراتها السياسية والاقتصادية، ولا تملك رؤية مستقبلية، والخطوط الفاصلة بين المقدس والدنيوي غامضة ومحل خلاف وتتنافس الهوية الوطنية مع هويات نابعة من الدين، والمذهب، والقبيلة، وتطغي عليها، بالاضافة لانتشار الارهاب والميليشيات المسلحة. ويرى “هاس” ان هذا الصراع سيكون طويلا ومكلفا ومهلكا. وبقدر ما ساءت الامور حتى الان فمن الممكن ان تتفاقم في المستقبل.
ومن ثم، هناك اقتناع لدى عدد من دوائر الفكر الامريكية بانه من الافضل ترك منطقة الشرق الاوسط تمر بعملية التحول الكبرى التي شهدتها، وان المنطقة سيسودها الاضطراب والسيولة، وعدم الاستقرار لفترة طويلة من الزمن، وان هذا أمر لا مفر منه، وأن التدخل الخارجي لن يغير من عملية التحول بالمنطقة، والافضل تركها لشأنها.
- اسباب تراجع أهمية الشرق الاوسط لدى الولايات المتحدة الامريكية.
هناك عوامل مرتبطة بالوضع في اقليم الشرق الاوسط، وخاصة بعد ثورات “الربيع العربي”، أو تلك المتعلقة بتوجهات الولايات المتحدة الامريكية، والتي ادت الى تغير في نهج السياسة الخارجية الامريكية، والتحول من “الانخراط المكثف” الى “الانخراط المرن”، واضحى التدخل الامريكي في الشرق الاوسط يتسم بالحذر والتراجع، وهذه العوامل كالاتي:
1_ انخفاض احتياج الولايات المتحدة لنفط الشرق الاوسط، سواء بسبب قيامها بتنويع مصادر استيراد النفط، والاعتماد بشكل اكبر على مصادر من خارج منطقة الخليج العربي، مثل كندا والمكسيك ونيجيريا، او ما يتعلق بالاكتشافات الضخمة لما يسمى “النفط الصخري” في الولايات المتحدة، والبدء في استخراجه وانتاجه بمعايير اقتصادية، وهو ما ادى الى وصول الولايات المتحدة الى حالة الاكتفاء الذاتي من الطاقة، ووفق تقديرات تشير الى انه ستصبح الولايات المتحدة دولة مصدرة للنفط خلال الفترة من 2025 الى 2030، وبالتالي عدم الحاجة للواردات النفطية من الخارج، وخاصة من الشرق الاوسط.
هذا التطور أصبح يشكل أحد المدخلات الاساسية في التفكير الاستراتيجي الامريكي تجاه منطقة الشرق الاوسط، والتي ارتبط وجودها التاريخي بها بتأمين مصادر البترول للأسواق الامريكية، ومن ثم فأن انخفاض حاجة الولايات المتحدة لبترول المنطقة أصبح يؤثر بالتاكيد في درجة اهتمامها وارتباطها بها.
2_ انخفاض ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الاوسط كان ايضا انعكاسا لتوجهات الرأي العام الامريكي الذي لم يعد متحمسا للتدخل الامريكي في المنطقة، أو النشاط الزائد بها، نتيجة للثمن الاقتصادي والبشري الذي دفعته الولايات المتحدة في غزوها واحتلالها للعراق، وقد اتضح ذلك بشكل جلي في محدودية الدور والتأثير الامريكيين في مرحلة ما بعد الربيع العربي، ورفض قطاع واسع من الرأي العام في البلدان العربية والقوى السياسية المتباينة لأي دور للولايات المتحدة، ووصفها بعدم المصداقية والتشكك في نياتها.
أي هناك ادراكا امريكيا لمحدودية الدور الذي يمكن ان تلعبه في المنطقة، وعدم الترحيب به، وبالتالي وصلت بعض دوائر الحكم الامريكية كوزارة الخارجية لقناعات واقعية، مفادها انه لا داعي للقيام بمثل هذا الدور.
3_ تقليص الانفاق العسكري. ففي ظل ارتفاع مستوى عجز الموازنة والضغوط التي واجهتها الادرات السابقة المختلفة، وتقليص ميزانية وزارة الدفاع، بات من الصعب التورط في حروب جديدة في منطقة الشرق الاوسط والاستمرار في حالة الاستنزاف الامريكي. بالاضافة الى زيادة معدلات عدم الاستقرار في منطقة الشرق الاوسط، ادت الى اعادة صياغة الاهداف الاستراتيجية للمصالح الامريكية، فبدلا من الاهداف التقليدية المرتبطة بالحفاظ على تدفق النفط ، وامن اسرائيل، ومنع الانتشارالنووي، ومواجهة النفوذ الروسي وريثة الاتحاد السوفيتي، أصبح التركيز أكثر على كيفية تحقيق الاستقرار، ومواجهة صعود الحركات الارهابية.
وقد ظهرت ملامح اعادة صياغة التعامل مع اقليم الشرق الاوسط والتحرك نحو تبني استراتيجية اعادة الهيكلة مما يخدم المصالح الامريكية الجديدة في اكثر من ملمح، بداية من استمرارية التمسك بخيار عدم التورط عسكريا في المنطقة، والتركيز على التعامل مع أزمات الاقليم بانتقائية وعدم تبني استراتيجية شاملة، والاهتمام باضطلاع دول المنطقة بدور مركزي في التعامل مع قضايا وازمات المنطقة مباشرة وعدم التعويل على الدور الامريكي، وصولا لتغيير البيئة الاستراتيجية للاقليم، كما هو الحال في تحويل نمط العلاقة على سبيل المثال مع ايران من حالة العداء الى حالة التعاون ثم الانتقال لمستوى مختلف يتضمن علاقات طبيعية على المدى البعيد.
4_ كذلك لا يمكن فصل التوجه نحو اسيا والتخوف الامريكي من تصاعد النفوذ الصيني بتلك القارة الاسيوية، ومن أن يؤدي ذلك للحد من نفوذها في القارة، أواستبعادها من التفاعلات التي تقودها الصين لاعادة ترتيب اسيا، وهو ما يتطلب اعادة توزيع درجة الاهتمام والامكانات الاستراتيجية الامريكية بعيدا عن الشرق الاوسط وقريبا من اسيا.
من خلال المؤشرات التي ذكرناها بدأت الولايات المتحدة باعتماد استراتيجية مختلفة في الشرق الأوسط، مغايرة لتلك التي كانت متبعة في السابق، والتي كانت منغمسة من خلالها في المنطقة بكثافة عبر حروبها أو احتلالها للعديد من الدول مثل العراق وأفغانستان. وقد بدأت في عهد أوباما كما أوضحنا سلفا واستمرت وعلى نفس الخطى، لكن بوتيرة أسرع وبنطاق أوسع، في عهد الرئيس ترامب الذي أطلق شعار “أمريكا أولاً” خلال حملته الانتخابية.
وبنى ترامب فلسفته، كالتالي، “على تلك الدول(دول الشرق الاوسط) أن تتحمل أعباء تلك الحروب بنفسها وعليها أن تؤدي دورًا قياديًا في تحقيق الأمن لنفسها ولمناطقها وإذا أرادت تلك الدول الحماية الأمريكية فعليها أن تدفع مقابل ذلك”. وضمن هذا السياق، فقد انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع ايران الذي (وقته ادارة اوباما) والذي يرى لا طائل اقتصادي منه، وأعلن عن انسحاب قواته من شمال سوريا، وأنه لم يعد بحاجة للتواجد في منطقة الخليج وأن لديه ما يكفيه من النفط والغاز.
وعلى الرغم من الاختلاف الواضح في التعاطي مع ملف الشرق الاوسط، لكل من المرشحين دونالد ترامب وجو بايدن في الحملة الانتخابية التي جرت مؤخرا، فأن الرئيس الجديد للولايات المتحدة جو بايدن، لن يكون محور اهتمامه الرئيسي الشرق الأوسط. بل على عكس ذلك تماما، من المتوقع أن يركز على إدارة الأزمة التي خلفتها جائحة كوفيد-19 على الصعيد الداخلي. أما فيما يخص السياسة الخارجية، سيحتل الشرق الأوسط مرتبة متراجعة في الترتيب.
وبالتالي، سيشهد الشرق الاوسط مزيدا من التراجع، ولكن هذا التوجه لم ولن يعني انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من الشرق الاوسط. فالولايات المتحدة ستحافظ على قدر من الاهتمام بهذه المنطقة لعدة أسباب كما اسلفنا، أولها يتعلق بكون الولايات المتحدة قوة كبرى في العالم وستظل مهتمة بأن تلعب دورا ما في الشرق الاوسط. السبب الثاني يتعلق بإسرائيل، وتعهدها بالحفاظ على وجود وأمن الدولة العبرية، وهو أحد ثوابت السياسة الامريكية. والسبب الثالث يتعلق بسعر النفط وتأثيره على الاقتصاد العالمي. فما زالت منطقة الخليج تلعب دورا مهما في تحديد سعر النفط كسلعة عالمية تخضع لمتطلبات العرض و الطلب.
ولكن المؤكد أن أهمية المنطقة للولايات المتحدة في تراجع مستمر، ومن ثم فإن رغبتها في التورط في شئونها أو لعب دور قيادي بشأن قضاياها هي أيضا في تراجع مستمر
الخلاصة أذن، إن مقولة أن الولايات المتحدة تدير سياستها في الشرق الأوسط، وفقاً لمصالح دائمة وثابتة لا تتغير، هي فكرة تحتاج للمراجعة لأن المصالح تتغير بتغير الزمن، فالمصالح تتغير وتقل أو تزيد أهميتها بالنسبة لمنطقة ما أو دولة معينة بتغير الزمن.
د. خالد هاشم محمد
مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية