تعتبر العلاقات الامريكية الصينية واحدة من اهم ملفات السياسة الخارجية الامريكية حاليا ، لاسيما بعد اندلاع الحرب التجارية بين البلدين عام ٢٠١٧ . ومن اجل فهم افضل لافاق الصراع الصيني الامريكي الحالي ، ينبغي علينا ان نفهم اولا التغييرات العميقة التي اصابت الاقتصاد الدولي في القرن ٢١ لكي نصل الى الى نقطة الصدام الحالية .
بدات مظاهر التغيير في الاقتصاد الدولي منذ اواخر القرن ال ٢٠ من اواخر عصر ماكان يعرف بالاقتصاد الصناعي وتحوله الى مايعرف حاليا بالاقتصاد المعلوماتي knowledge او اقتصاد الراسمال البشري human capital او اقتصاد مابعد الصناعة post industrial او اقتصاد الانتباه الذهني attention او الاقتصاد المعرفي cognitive او الاقتصاد الحاسوبي computational او الاقتصاد الرقمي digital او اقتصاد المعلومة information او اقتصاد الانترنيت İnternet او اقتصاد التعلم learning او الاقتصاد الشبكي network وغيرها من المصطلحات التي تعبر عن واقع الريادة في الاقتصاد الحالي والذي يقوم علئ اساس التكنولوجيا وليس على الصناعة التقليدية ( رغم اننا مازلنا نشير للدول المتقدمة اقتصاديا في عصرنا بانها الدول الصناعية خطأ).
وقد بدأت قطاعات هذا الاقتصاد بالظهور منذ اواخر القرن ال ٢٠ حتى تسيدت تماما في القرن ال ٢١ بظهور شبكة الانترنيت وكل منتجاتها الاخرى المختلفة في عصرنا الراهن .
وتصاحب هذا التحول في الريادة من الصناعة للتكنولوجيا الى ظهور الصين كمصنع للاقتصاد العالمي او ورشة الصناعة العالمية ، وقد استفادت الصين من هذا التحول و رغبة الدول الصناعية في ترك قطاع الصناعة الى قطاع الخدمات والتكنولوجيا بالاضافة الى جملة من العوامل الاخرى مثل:
اولا- بنية تحتية جيدة تم تشييدها منذ ايام ماوتسي تونغ
ثانيا – بنية قمعية ممتازة للطبقة العاملة الصينية ( blue collar ) بعدما اصبحت الطبقة العاملة الغربية متخمة بالحقوق المختلفة الامر الذي انعكس على كلف استخدامها في الغرب ( حد ادنى للرواتب وضمانات صحية و اجتماعية وحد اعلى لساعات العمل وحقوق النساء وتحريم عمالة الاطفال ….. الخ
ثالثا – عدم اكتراث صيني بقوانين الحد من التلوث والحفاظ على البيئة … الخ ، مما قلل كثيرا من كلف الانتاج.
رابعا – طاقة رخيصة و متوفرة ( الفحم )
خامسا – واهم هذه النقاط هو تحكم حكومي كامل بقيمة العملة المحلية الصينية ( اليوان او الرينغمبي ) مما جعل الحكومة تتعمد ابقاءها بادنى مستوى لديمومة رخص عوامل الانتاج الصيني وبالتالي ابقاء الصين كمنطقة جذب اولى عالميا للرساميل
وفي حين نجحت المراكز الصناعية المتطورة والصغيرة ( سكانيا و قطاعيا ) الى حد كبير في التحول من واقع الاقتصاد الصناعي الى الاقتصاد الجديد ( كسنغافورة و تايوان والدول الاسكندنافية ودول وسط اوربا كالنمسا وسويسرا …. الخ ) فان التحول بالنسبة للاقتصادات الكبرى ( بريطانيا وفرنسا والمانيا والولايات المتحدة …. الخ ) كان اصعب واكثر ايلاما وكان يعني عملية من اتجاهين:
اولا – افول وتراجع القطاع الصناعي مع ما يعنيه ذلك من بطالة وافلاس لشركات هذا القطاع او تحولها لمناطق اخرى ( وعلى راسها الصين)
ثانيا – عملية بناء كوادر وعمالة الاقتصاد الجديد او مايدعى ب ( white collar ) وهي عملية تستغرق بالتاكيد وقتا وجهدا كبيرين ناهيك عن تغيير المناهج الدراسية وتطويرها بشكل عالي ومكلف للوصول لبناء الطاقات العلمية المطلوبة لمثل هذا الاقتصاد واحتياجاته.
اما بالنسبة للصين فقد بدأ استعدادها لبناء دورها الجديد في الاقتصاد الدولي ( على يد قيادتها الجديدة انذاك والمتمثلة ب دنغ هسياوبنغ ) منذ عام ١٩٨٢ سياسيا وتشريعيا باعتماد سياسة اصلح وانفتح ( reform & opening ) واكتملت ملامح النظام بعد احداث تيان ان مين ١٩٨٩ باعتباره نظاما لبراليا من الناحية الاقتصادية قمعيا اوليغارشيا من الناحية السياسية .
وبدءا من عام ٢٠٠٣ تم اقرار صيغة الانفتاح الكامل في الصين امام الرساميل الاجنبية بموافقة الحزب الشيوعي الصيني ، وقد سبق هذا الوضع قيام الكونغرس الامريكي باصدار قانون العلاقات الامريكية الصينية عام ٢٠٠٠ ، ثم انضمام الصين على اثرها الى منظمة التجارة الدولية ( WTO ) في ٢٠٠١ وفي نفس العام اصبحت الصين من مجموعة الدول الاولى بالرعاية بالنسبة للولايات المتحدة .
وهكذا بدأ زحف الصناعات الامريكية الى الصين ( قدر نزيف الوظائف الصناعية التي رحلت من الاقتصاد الامريكي الى الاقتصاد الصيني بحوالي ٢.٧ مليون وظيفة خلال الاعوام ٢٠٠٠-٢٠١٠.
والواقع ان هذا لم يكن حال الولايات المتحدة لوحدها بل كان هو نفس الوضع لجميع الصناعات في كل انحاء العالم فيما عرف وسمي بصدمة الصين (China shock).
وبرغم كل ادعاءات الشعبويين فان الارقام و تحليلات علماء الاقتصاد امثال ديفيد اوتور و ديفيد دورن و غوردون هانسون اثبتت ان اقتصادات الغرب قد كسبت وظائف في الاقتصاد المعرفي تعادل ( من حيث القيمة الاقتصادية وليس العددية ) حجم الوظائف المفقودة من الاقتصاد الصناعي ، لكن المشكلة ان هذه العملية لم تكن واضحة ابدا امام قطاعات الرأي العام الغربي الذي بدأ يتنامى لديه شعور مضطرد بعدم الرضا عن تصوره قيام الاقتصاد الصيني بالتكسب على حسابه .
من جهة اخرى فقد تطورت الرؤية الصينية بدورها بعد نجاحها الصناعي والاقتصادي الهائل وتراكم السيولة المالية لديها بامكانيات متقدمة ( فاقت جميع دول العالم باستثناء الاقتصاد الامريكي ) اصبحت تتطلع لولوج عالم الاقتصاد المعرفي.
وبرغم الاعتراضات المتراكمة غربيا على شكل العلاقة مع الصين الا ان الارباح الهائلة التي تدفقت على مجمل الاقتصاد العالمي فيما عرف بالفقاعة الاقتصادية كان كفيلا باسكات كل الاصوات المعترضة حتى مجئ ازمة ٢٠٠٨ والتي مثلت نقطة النهاية لشهر العسل بين الطرفين .
بدأت الازمات السياسية والاقتصادية تتوالى بين الطرفين منذ ٢٠٠٩ ( تاريخ اول نزاع تجاري بين الطرفين حول صناعة اطارات السيارات ) فبدأت الاتهامات الامريكية للصين بالتربح على حسابها من جهة فيما اتهمت الصين الجانب الامريكي باخذ موقف حمائي مخالف لروحية منظمة التجارة العالمية .
وعندما ارادت الصين ولوج عالم الاقتصاد المعرفي ووجهت برفض غربي او بالاحرى اشتراط غربي عليها في ملفين رفضتهما الصين بشكل بات وهما :
اولا. ملف حقوق الانسان وانتهاكات الصين فيه ، والمطالبة بالاصلاح السياسي للنظام الصيني واكمال التحول الديمقراطي في النظام الذي انقطع باحداث ١٩٨٩ كشرط اساسي لانضمام الصين لنادي الدول الكبرى اقتصاديا ( اسوة بالهند وبقية الدول العالمثالثية ) كون النظام الصيني الحالي سيكون مصدر تهديد عالمي واقليمي بقوته الجديدة ان لم تكتمل فيه اسس التحول الديمقراطي.
ثانيا. ان الصين اذا ارادت ولوج الاقتصاد المعرفي فانه ينبغي عليها التخلي عن الاقتصاد الصناعي ( اسوة بما فعلته وتفعله الاقتصادات الغربية الاخرى ) وحتى تمنح المجال لاقتصادات اخرى في العالم لتحل محلها صناعيا وتتيح لها التطور والنمو اقتصاديا ( كما حصل معها منذ عام ٢٠٠٠ ) وهذا الشرط لن يتحقق الا من خلال سماح الصين باحتلال عملتها المحلية لمستواها الحقيقي من حيث القيمة والتوقف عن عملية تخفيضها المتعمد ( في البدء كان اليوان منخفض القيمة فعلا لكنه ارتفع فعلا لاحقا بعد ارتفاع الدخل القومي والفردي في الصين لكن الحكومة مازالت تصر على تخفيضه بشكل متعمد لضمان استمرار تدفق الرساميل الصناعية اليها ) وبالطبع فقد رفضت الصين كلا الشرطين ومازالت تقاومهما.
نشأ عن ذلك وضع مغلق امام تطلعات الصين وجدت فيه نفسها مضطرة للاعتماد على التجسس الصناعي والمعلوماتي الكامل على الغرب و مؤسساته فاصبح هذا الملف جزءا مضافا لملف العلاقات المثقل بالقضايا بين الطرفين.
من جهة اخرى فقد اعطى التفوق الاقتصادي للصين دفعة قوية لاطماعها الاقليمية في منطقة مثقلة بالمواريث التاريخية المأزومة مثل الشرق الاقصى والمحيط الهادي وبحر الصين الجنوبي …. الخ فازداد الخوف والهواجس من حلفاء الولايات المتحدة امثال تايوان واليابان وكوريا الجنوبية بل وحتى استراليا ونيوزلندا بعدما الغت الصين عمليا اتفاق ١٩٩٧ مع بريطانيا بخصوص هونغ كونغ ، كما ظلت ترسل رسائل التهديد المعلنة والمخفية تجاه تايوان وهو من اخطر مهددات الامن في المحيط الهادي .
كما ينظر الغرب عموما وواشنطن على الوجه التحديد بعدم رضا واضح عن زحف الرساميل الصينية عالميا لابتلاع الدول فيما عرف بمبادرة الحزام والطريق ( belt & the road initiative ) التي بدأت منذ عام ٢٠١٣ لتمدد النفوذ الصيني عبر العالم سواء في المحيط الهادي او الهندي او حتى في اوربا ( والتي مازالت ترفض الاستسلام لمغريات المشروع اقتصاديا حتى الان برغم تخلي ادارة ترامب عن دعمها حتى الان !!! ).
ويبقى السؤال الاهم والمركزي في الموضوع هو ماذا سيكون موقف ادارة بايدن الجديدة من الملف الصيني ؟
يبدو انه سيكون من الصعب على الادارة الجديدة ان تمسح تاريخ السنوات الاربع السابقة وتعيد عقارب الساعة للوراء الى مرحلة شهر العسل الامريكي الصيني ( اطلق بعض الباحثين مصطلح صيمريكا على العلاقة الفريدة التي كانت تجمع البلدين حيث تقوم الصين بدعم الاقتصاد الامريكي عبر شراء سندات الخزانة الامريكية مقابل ان يقوم الامريكان بضخ الاموال في الاقتصاد الصيني !!! ).
وبالتالي ستحاول ادارة بايدن ان تبعد التوتر الذي كان قائما والذي اوصل بعض المحللين للحديث عن احتمالية الصدام العسكري بين الطرفين !!!!! ابان عهد ترامب ، لكن دون التفريط باسس الصراع الحالي وهي
ايقاف التهديد الصيني الامني لمناطق جوارها.
ايقاف مسلسل انتهاكات حقوق الانسان داخل الصين ( وهو الملف الذي اقر بايدن باهميته ليس مع الصين لوحدها بل مع مختلف الانظمة في العالم).
محاولة ايجاد توازن في العلاقة التجارية بين الطرفين ( لاسكات قطاع الرأي العام المتضرر من هذه العلاقة لاسيما في قطاع الصناعة الامريكية المحتضرة ).
واخيرا محاولة ايجاد جبهة دولية مساندة مع حلفاء واشنطن التقليديين ( الذين عانوا من سياسات ترامب ) كاوربا وكندا واستراليا واليابان وكوريا و الهند وبقية دول جنوب شرق اسيا ، لا لمواجهة بايجنغ فقط بل لمواجهة جميع دول مجموعة شانغهاي ( محور بايجنغ – موسكو ) وربما هذا بالضبط ماحدى بموسكو و بايجنغ الى التصريح علنا بانهما يفضلان بقاء ترامب في البيت الابيض وبقاء خطه الفوضوي في السياسة الخارجية على مجئ بايدن.
د. الناصر دريد مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية