لا شك ان الانتخابات الرئاسية الأمريكية تلقي بتأثيراتها على الأحداث العالمية كافة مرة كل أربع سنوات. وتهيمن وقائعها واتجاهاتها على مختلف وسائل الإعلام، وتلعب شخصية الرئيس الجديد وتوجهاته وانتمائه الحزبي دور كبير في التأثير في كثير من علاقات الولايات المتحدة الدولية، ووجودها في الخارج من عقد اتفاقيات السلام والتعاون وحل النزاعات، إلى شن الحروب.
ولا شك أن انتخابات عام 2020 ستشهد تحولاتٍ عميقةً في الحياة السياسية الأميركية؛ فقد فرض تفشّي فيروس كورونا المستجد ركودًا اقتصاديًا غير متوقع ألقى بظلاله على السباق الرئاسي وغيّر مساره. فقبل تفشي الفيروس، كانت التوقعات تُظهر أن الرئيس الحالي ترامب سيتوجه نحو ولاية ثانية بأدنى معدل بطالة تاريخيًا وبمكاسب اقتصادية قوية، وهو ما جعل الاقتصاد ورقة قوية بيده، ولا يمثل مشكلة تذكر في مسار الحملة. لكن ترك فيروس كورونا آثاره القوية على مستقبل تلك الانتخابات وقلل من فرص فوز ترامب، وها هو نائب الرئيس السابق جو بايدن، وعكس معظم التوقعات، يصبح المرشح الأقوى للحزب الديمقراطي، حسب اخر توقعات اجريت قبل ايام، وقد حشد الديمقراطيين خلف ترشيحه وأصبح المنافس القوي لترامب،
وفي ظل وجود هذا التنافس القوي بين المرشحين البارزين، دونالد ترامب، الذي تسبب في خلق توترات وصراعات عالمية على نحو لم يسبقه فيه أي رئيس آخر، وجو بايدن نائب الرئيس السابق باراك أوباما والساعي للتغيير، تبرز أمامنا سياسات خارجية متناقضة لكل منهما في حال فوز أي منهما في انتخابات الرئاسة القادمة والتي ستجري في نوفمبر القادم.
فمنذ توليه منصبه في يناير2017 واجه الرئيس ترامب انتقادات واسعة حول سياساته الداخلية والخارجية وطريقة إدارته، التي عملت على تقويض مكانة أمريكا كقوة ليبرالية عالمية، حيث دفعته أيديولوجيته وشخصيته المتقلبة إلى انتهاج أهداف عدائية، فعمد إلى التنصل من المنظمات الدولية التي تهدف إلى تعزيز الديمقراطية والحرية الليبرالية. وبدلا من ذلك سمح لأنظمة تعتبر عدوة للولايات المتحدة مثل الصين بزيادة قوتها ونفوذها في الشؤون العالمية، وهاجم حلفاء واشنطن، ودعم الحكام الشعبويين وأجج النزاعات، بل خلق توترات جديدة، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط؛ وتحديدا مع ايران، الأمر الذي ألحق أضرارا بمكانة أمريكا العالمية وتأثيرها في الشؤون الدولية.
في المقابل فمن المتوقع أن تكون طريقة إدارة جو بايدن للسياسة الخارجية متشابهة مع طريقة إدارة أوباما، والتي من المرجح أن تركز معظم اهتمامها على القضايا الداخلية، مع اتخاذ لسياسة خارجية مغايرة تماما عن نهج الإدارة الحالية؛ من خلال العمل على دعم المنظمات الدولية، والعلاقات الشخصية الودية مع قادة العالم، جنبا إلى جنب مع الالتزام المستمر بالإنفاق الدفاعي العالي المستوى واتخاذ موقف حذر تجاه خصوم أمريكا. وعليه، من الواضح أن غالبية السياسة الخارجية المحتملة لرئاسته ستكون مناقضة للعديد من القرارات التي اتخذها ترامب.
ويمكن التنبؤ نسبيا بأن فوز المرشح الرئاسي جو بايدن مرشح الحزب الديمقراطي سيغير الكثير من المعادلات الأمريكية. بعد إن قلب الرئيس ترامب تلك المعادلات رأساً على عقب خاصة في مجال التجارة العالمية والمناخ والبيئة. وسيكون لزاما عليه العمل على تحقيق تغير جذري في السياسة الأمريكية الخارجية، وهو ما يعني أن هذا التغير سيكون حتميا.
تركز الدراسة على جانب محدد من تلك السياسات الخارجية لكلا المرشحين وتحديدا سياستهم الخارجية تجاه ملف مهم للغاية وخطير، وهو ملف الشرق الاوسط ونحاول ان نوضح مدى التباين او الاتفاق بينهما تجاه هذا الملف الخطير والمعقد من خلال بعض الخطوط العريضة. لاثارة التسائلات والنقاشات.
والفرضية الاساسية التي بنيت عليها الدراسة هي، ان منطقة الشرق الاوسط قد تراجعت اهميتها الاستراتيجية نسبيا لدى صانع القرار الامريكي ومنذ ومدة ليست بالقصيرة، وهذا لا يعني ان الولايات المتحدة ستتخلى عنها نهائيا او تغادرها بالكامل، وانما يعني ان اهميتها على مستوى العالم تراجعت الى مرتبة ثالثة او حتى رابعة بعد اوروبا ومنطقة اسيا وامريكا اللاتينية.
فيما يتعلف بالمرشحين دونالد ترامب وجو بايدن، هناك تشابه إلى حداً ما، فيما يتعلق بتقليل الارتباط الأمريكي بهذه المنطقة وتقليل الدور القيادي الامريكي فيها، كما اشرنا انفا في بداية الكلام. والأمر أصبح توجه استراتيجي للولايات المتحدة ولا يرتبط بشخصية رئيس معين، ويرجع بشكل أساسي إلى انخفاض الأهمية الإستراتيجية للمنطقة في منظومة المصالح الإستراتيجية الأمريكية، وظهور فرص وتهديدات في مناطق أخرى على رأسها القارة الأسيوية. وهذا حقيقتا يرتبط الى حدا ما بمجموعة الأفكار التي طرحها ستيفن والت، وهو الأستاذ بجامعة هارفارد، حول السياسة الأمريكية تجاه هذه المنطقة، ويرى ستيفن والت أن الشرق الأوسط في منتصف ثورة عميقة، لا يزال مسار مستقبلها غير محدد، والصراع فيها يدور من خلال خطوط عديدة، كالسنة ضد الشيعة، والعرب ضد الفرس، والعلمانية ضد الإسلام، والديمقراطيين ضد السلطويين.. الخ. وفي إطار هذا الموقف المتشابك وغير المفهوم، فإن آخر ما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية هو ان تحاول القيام بدور الحكم، أو أن تحاول فرض رؤيتها السياسية المفضلة على تلك الأحداث، وأن الإستراتيجية الأفضل للولايات المتحدة في المنطقة يجب أن تقوم على تقليل وجودها بها، وإنشاء نظام لتوازن القوى (Balance of power) بين القوى الإقليمية. ويشير والت إلى أن هذه هي السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة في الفترة من 1945 الى 1990، حي لعبت دور الموازن أو المعادل الخارجي في الإقليم. وبالتالي يرى والت أن الحل الواضح للولايات المتحدة هو ان تعود الى هذه الإستراتيجية المتعلقة بتوازن القوى.
كما وشبه البعض حال الشرق الاوسط اليوم، بفترة حرب الثلاثين عام التي شهدتها اوربا، والتي دارت رحاها في الفترة من 1618 الى 1648. ففي كتابه الاخير عن النظام الدولي، يتحدث “هنري كيسنجر” عن هذا التشابه، خاصة التدخل بين النزاعات الدينية والسياسية، والتي ادت لحروب راح ضحيتها الاف البشر، وبالتالي فان استمرار هذا الوضع في الشرق الاوسط سيؤدي الى اشتعال المواجهة فيه على غرار الحروب الدينية التي سادت اوربا في القرن السابع عشر. ونشر ايضا “ريتشارد هاس” رئيس مجلس العلاقات الخارجية الامريكي، مقالا حول هذا الموضوع، ذكر فيه ان الشرق الاوسط يعيش الان المراحل المبكرة من النسخة المعاصرة من حرب الثلاثين عام، حيث تعمل الولاءات الدينية والسياسية على تأجيج الصراعات داخل الدول وفيما بينها. وذكر هاس ان المنطقة مهيأة للمزيد من الاضطرابات، فمعظم شعوبها ضعيفة في قدراتها السياسية والاقتصادية، ولا تملك رؤية مستقبلية، والخطوط الفاصلة بين المقدس والدنيوي غامضة ومحل خلاف وتتنافس الهوية الوطنية مع هويات نابعة من الدين، والمذهب، والقبيلة، وتطغي عليها، بالاضافة لانتشار الارهاب والميليشيات المسلحة. ويرى “هاس” ان هذا الصراع سيكون طويلا ومكلفا ومهلكا. وبقدر ما ساءت الامور حتى الان فمن الممكن ان تتفاقم في المستقبل.
ومن ثم، هناك اقتناع لدى عدد من دوائر الفكر الامريكية بانه من الافضل ترك منطقة الشرق الاوسط تمر بعملية التحول الكبرى التي شهدتها، وان المنطقة سيسودها الاضطراب والسيولة، وعدم الاستقرار لفترة طويلة من الزمن، وان هذا أمر لا مفر منه، وأن التدخل الخارجي لن يغير من عملية التحول بالمنطقة، والافضل تركها لشأنها.
• المتغيرات والعوامل التي فرضت نفسها لفك الارتباط الامريكي بالشرق الاوسط.
هناك عوامل مرتبطة بالوضع في اقليم الشرق الاوسط، وخاصة بعد ثورات “الربيع العربي”، أو تلك المتعلقة بتوجهات الولايات المتحدة الامريكية، والتي ادت الى تغير في نهج السياسة الخارجية الامريكية، والتحول من “الانخراط المكثف” الى “الانخراط المرن”، واضحى التدخل الامريكي في الشرق الاوسط يتسم بالحذر، وهذه العوامل كالاتي:
1_ انخفاض احتياج الولايات المتحدة لنفط الشرق الاوسط، سواء بسبب قيامها بتنويع مصادر استيراد النفط، والاعتماد بشكل اكبر على مصادر من خارج منطقة الخليج العربي، مثل كندا والمكسيك ونيجيريا، او ما يتعلق بالاكتشافات الضخمة لما يسمى “النفط الصخري” في الولايات المتحدة، والبدء في استخراجه وانتاجه بمعايير اقتصادية، وهو ما ادى الى وصول الولايات المتحدة الى حالة الاكتفاء الذاتي من الطاقة، ووفق تقديرات تشير الى انه ستصبح الولايات المتحدة دولة مصدرة للنفط خلال الفترة من 2025 الى 2030، وبالتالي عدم الحاجة للواردات النفطية من الخارج، وخاصة من الشرق الاوسط.
هذا التطور أصبح يشكل أحد المدخلات الاساسية في التفكير الاستراتيجي الامريكي تجاه منطقة الشرق الاوسط، والتي ارتبط وجودها التاريخي بها بتأمين مصادر البترول للأسواق الامريكية، ومن ثم فأن انخفاض حاجة الولايات المتحدة لبترول المنطقة أصبح يؤثر بالتاكيد في درجة اهتمامها وارتباطها بها.
2_ انخفاض ارتباط الولايات المتحدة بالشرق الاوسط كان ايضا انعكاسا لتوجهات الرأي العام الامريكي الذي لم يعد متحمسا للتدخل الامريكي في المنطقة، أو النشاط الزائد بها، نتيجة للثمن الاقتصادي والبشري الذي دفعته الولايات المتحدة في غزوها واحتلالها للعراق، وقد اتضح ذلك بشكل جلي في محدودية الدور والتأثير الامريكيين في مرحلة ما بعد الربيع العربي، ورفض قطاع واسع من الرأي العام في البلدان العربية والقوى السياسية المتباينة لأي دور للولايات المتحدة، ووصفها بعدم المصداقية والتشكك في نياتها.
أي هناك ادراكا امريكيا لمحدودية الدور الذي يمكن ان تلعبه في المنطقة، وعدم الترحيب به، وبالتالي وصلت بعض دوائر الحكم الامريكية كوزارة الخارجية لقناعات واقعية، مفادها انه لا داعي للقيام بمثل هذا الدور.
3_ كذلك لا يمكن فصل التوجه نحو اسيا والتخوف الامريكي من تصاعد النفوذ الصيني بتلك القارة الاسيوية، ومن أن يؤدي ذلك للحد من نفوذها في القارة، أواستبعادها من التفاعلات التي تقودها الصين لاعادة ترتيب اسيا، وهو ما يتطلب اعادة توزيع درجة الاهتمام والامكانات الاستراتيجية الامريكية بعيدا عن الشرق الاوسط وقريبا من اسيا.
وعليه يمكن القول بان حضور موضوعات وملفات الشرق الأوسط في الانتخابات الأميركية سيكون محدوداً بين المرشحين المتنافسين دونالد ترامب وجو بايدن وعلى النحو الاتي:
● فيما يتعلق بملف الحروب والصراعات في الشرق الأوسط.
يعتبر ترامب بان الذهاب للحرب في الشرق الأوسط كالحرب على العراق عام 2003، كان أسوء قرار في تاريخ الولايات المتحدة، تحت ذريعة باطلة هي أسلحة الدمار الشامل، لم يكن هناك أي منها. وهو أشار في تغريده لديه على تويتر إن “الولايات المتحدة أنفقت ثمانية تريليون دولار في القتال والقيام بدور الشرطي في الشرق الأوسط، والآلاف من جنودنا العظماء قتلوا أو أصيبوا بجروح خطيرة، وملايين الناس قتلوا في الجانب الآخر”. من هذا المنطلق يعارض ترامب بشدة الخوض في حروب وصراعات هي بدون طائل وبدون فائدة للولايات المتحدة،. وتتلخص فلسفة ترامب، كالتالي، “على تلك الدول تحمل أعباء تلك الحروب بنفسها وعليها أن تؤدي دورًا قياديًا في تحقيق الأمن لنفسها ولمناطقها وإذا أرادت تلك الدول الحماية الأمريكية فعليها أن تدفع مقابل ذلك”. وعليه، يُتوقع أن يبقى اهتمام الولايات المتحدة بصراعات الشرق الأوسط، في صنع السياسات وفي الحملات محدودًا بعد عام 2020. وكذلك سيعمل التناغم النفطي الأميركي– الروسي- السعودي على جعل ترامب أقل حماسًا لدفع عملية سلام في اليمن وليبيا وسورية، حيث من المرجح أن تستمر النزاعات والقضايا العربية غير حاضرة في الاعتبارات الانتخابية، إلا إذا ثارت بعد أزمة كورونا اضطرابات في بعض أنحاء العالم العربي وفي الأشهر المقبلة تتطلب حضورا امريكيا مبرر.
وهذا الامر ينسحب على العراق، اذ أعرب كل من ترامب وبايدن أنهما يريدان سحب القوات الأمريكية من مناطق الصراع، وعلى الرغم من أن لا أحد منهما يملك استراتيجية محددة للقيام بذلك، إلا أنهما يختلفان في بعض النقاط لتنفيذ هذا الانسحاب.
ووفقا للمنطق الترامبي ان صح التعبير
فهو أعلن ومنذ الحملة الانتخابية لسنة 2016 أنه يريد “إعادة الجنود الأمريكيين إلى أرض الوطن”، مشيرا إلى أن بعض المقاتلين سئموا من “الحروب التي لا نهاية لها” وهو الأمر الذي كرره هذا الشهر كجزء من حملته الانتخابية. لقد حققت حملة ترامب الانتخابية لسنة 2016 التي رفعت شعار “أمريكا أولاً” نجاحا لأن الناخبين لا يرون نتائج حقيقية من كل هذه الحروب ولا يفهمون الغاية من إنفاق الولايات المتحدة مليارات الدولارات عليها، لذلك صوتوا له.
لقد ذهب الرئيس الحالي إلى أبعد من ذلك، حيث صرح بأنه لا يحظى بشعبية في البنتاغون لأن هذه الهيئة تسعى فقط إلى “أن تكون متأهبة للحرب” و”أن تكون قادرة على تخصيص مبالغ طائلة لشراء شركات الأسلحة”. من هذا المنطلق فمن المتصور ان يسعى ترامب الى انهاء الوجود الامريكي في العراق او جعله رمزيا
وهذا يطرح تسائل امامنا، وهو ماذا سيكون مستقبل العراق اذا تم هذا التخفيض او الانسحاب في ظل التداعيات الخطيرة التي يعيشها البلد والتحديات الجسام.
بالمقابل دعم جو بايدن الحرب على العراق عام 2003، وكان صاحب مشروع تقسيم العراق إلى مناطق فدرالية، لكنه تراجع عن مواقفه هذه فيما بعد، وأصبح لا يحبذ وجودا عسكريا ثقيلا في العراق وسوريا، إنما أيضا لن يتسرع في الانسحاب في حال انتخابه رئيسا. واذا ما تم الانسحاب فيجب ان يتم بطريقة “مسؤولة”، فهو يؤيد كما قال في المناظرات إبقاء قوة عسكرية خاصة في مناطق الصراع. لكن باين في النهاية يؤيد خطة ترامب لإنهاء الحروب الطويلة التي لا تنتهي في الشرق الأوسط. لكنه مع ذلك سيحاول تمييز نهجه عن نهج إدارة ترامب في الشرق الأوسط من خلال اقتراح بعض الفروق الدقيقة. وقد يتخذ إجراءاً مختلفاً بشأن الانسحاب من العراق وسوريا.
ستكتشف الولايات المتحدة، مع انتخاب بايدن، أن التوجهات الشعبية الأمريكية تعارض التورط في حروب جديدة، كما يعم الرأي العام الأمريكي حالة ضيق من آفاق التدخل العسكري في دول أخرى وذلك بسبب العبء الاقتصادي والأمني لهذه التدخلات. لهذا سيكون العهد الديمقراطي أكثر مهادنة واقل تدخلاً في حروب وشؤون الدول الإقليمية.
هذا فيما يتعلق بملف حروب الشرق الاوسط.
● الملف الإيراني.
لم يخف ترمب معارضته القوية للاتفاق النووي الذي وقعته طهران في إدارة اوباما مع الدول العظمى في يوليو/تموز 2015، وبدأ تطبيقه مطلع عام 2016. ويراه أسوء اتفاق، لأنه يضع إيران، في طريق الحصول على سلاح نووي”، ولم يكتف ترامب بانتقاد الاتفاق، ولكنه اتخذ قراره بالانسحاب منه والعودة إلى العقوبات في الثامن من أيار/مايو 2018، مؤكداً أن الاتفاق لم ينجح في وقف المساعي الإيرانية للحصول على السلاح النووي، أو ردعها عن مواصلة تطوير برنامجها للصواريخ البالستية. كما وصفه صراحة بأنه “خطير جداً”، وبأنه “خطأ تاريخي” سيوقفه بأي وسيلة ليتسنى له تصحيح هذا الخطأ، وهو ما فعله بالضبط، حيث وضعه كأولوية في سياسته الخارجية، وسعى لزيادة العقوبات حتى أكثر مما كانت عليه قبل الاتفاق. هذه الاجراءات التي اتبعها ترامب هي ضمن سياسة عبر عنها او كما وصفت بسياسة الضغوط القصوى على ايران، والتي يرى انها في نهاية المطاف ستجبر ايران على الجلوس الى طاولة المفاوضات والرضوخ للشروط الامريكية.
كما اقدم ترامب على اجراءات استفزازية مع ايران، لترجمة اقواله لافعال على ارض الواقع، منها على سبيل المثال في 22 نيسان/ أبريل 2020، أمر ترامب البحرية الأميركية “بقصف وتدمير” الزوارق الحربية الإيرانية التي “تضايق” السفن الأميركية؛ حصل ذلك بعد لقاء استفزازي بين الجانبين في مياه الخليج. وجاء ايضا مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس الايراني بطائرة بدون طيار وبتوجيه مباشر من ترامب ليشهد مزيد من التصعيد والتعقيد في هذا السياق.
وعشية الانتخابات الرئاسية اليوم، سيبقى ترامب متمسكة دومًا بالضغط على النظام الإيراني. ومع أن المواجهة بين واشنطن وطهران غير محتملة، فإن وقوعها اليوم واثناء الانتخابات سهيمن على المشهد الرئاسي.
فيما يتعلق بجو بايدن، يعتبر من مؤيدي الخيار الدبلوماسي في التعامل مع ايران مع استخدام أسلوب العقوبات. وسيدافع بايدن بلا شك عن الاتفاق النووي مع إيران باعتباره أحد إنجازات السياسة الخارجية الرئيسة للرئيس السابق باراك أوباما. وهو ايضا من صوت ضد اعتبار الحرس الثوري الإيراني منظمة إرهابية عندما كان سيناتور.
ولذلك من المتوقع مع رئاسة بايدن الجديدة أن تغير الولايات المتحدة من سلوكها تجاه إيران. هذا التحول ستقبل عليه الولايات المتحدة مع جو بايدن معطية النظام الإيراني الامكانية في الاستمرار والبقاء. لهذا ستجد الولايات المتحدة نفسها بحاجة لهدوء أكبر في ملفها الشائك مع إيران، ولهذا ستبتعد عن العقوبات الراهنة، وعن الضغط المبالغ به على إيران، لكنها ستجر إيران لمفاوضات تسمح بالتهدئة والتوازن( ). وبينما يدور جانب من الصراع الأمريكي مع إيران حول قضايا محددة كالنووي ودور إيران في الإقليم، لكن الولايات المتحدة في ظل إدارة ديمقراطية جديدة ستكون أقل حماسة للتصدي للدور الإيراني في الإقليم، بل ستكون تلك الإدارة أكثر حماسة للوصول لتسوية مع إيران. ربما تنشأ تحالفات هدفها التهدئة وتغير سلوك إيران بلا مواجهة مباشرة. هذه الاحتمالات قائمة وهي تتناقض مع الخط العام لإدارة الرئيس ترامب.
● الملف التركي.
هي الأخرى تعتبر قضية خلافية ما بين المرشحين الرئاسيين، بسبب علاقة ترامب الوثيقة بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وعلى سبيل المثال، عارض البيت الأبيض بقوة فرض عقوبات أميركية على أنقرة عندما اشترت تركيا نظام الصواريخ الروسي S-400، كما وأبدى ترامب استعدادًا أكبر للتراجع أمام الضغوط التركية في سورية، ولم يحاول الصدام او المواجهة مع الجانب التركي هناك، من جانبه تعهّد بايدن بأنه، في حال انتخابه، سيدعم قراراً يعترف بالإبادة الجماعية للأرمن .
وحول الدور التركي في سوريا، ذكر بايدن صراحة أن الدور التركي يمثل مشكلة حقيقية تزيد المشهد تعقيدًا، ففي تصريح له في مارس الماضي، قال بايدن “المشكلة في سوريا هي حلفاء الولايات المتحدة مثل تركيا التي دفعت بألاف المقاتلين الأجانب بما في ذلك أشخاص مرتبطين بتنظيم القاعدة لفعل أي شيء لإسقاط نظام الأسد، ولم تنجح في ذلك، وتحول الأمر إلى فوضى ودمار تبعه ظهور داعش وانتشاره في العالم”، هذا التصريح يكشف أن بايدن يعلم جيدًا حجم الدور الذي يلعبه الأتراك في سوريا، ويشير إلى أن دور أنقرة السلبي في الملف يعقده أكثر، وأن تعاظم الدور التركي في سوريا أمر يرفضه بايدن بوضوح
وبالتالي سيحافظ بايدن، على انتقاده المستمر لترامب خصوصا بعد قرار ترامب المفاجئ في عام 2019 بسحب القوات الأميركية من سورية، والذي سمح بالتوغل التركي هناك. فقد قال بايدن آنذاك أن ترامب “باع الأكراد في سورية”.
● ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي.
تخلى الرئيس ترامب عن الخط الذي تعتمده الولايات المتحدة في عملية السلام في الشرق الأوسط منذ ثلاثين عامًا، واستبدله بخطة سلام فلسطينية – إسرائيلية سميت في حينها “صفقة القرن” وكان قد ايد سابقا خطط إسرائيل لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة لإسرائيل، ونقل السفارة الاسرائيلية من تل ابيب الى القدس في العام 2018، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان في عام 2019. وستواصل إدارة ترامب في ولايته الثانية دعمها للمواقف الإسرائيلية، ومن المتوقع أن يؤيد ترامب مزيدا من اجراءات الضم مستقبلا، هذا الخطوات تخدم خطابه وباعتبار الحزب الجمهوري هو الآن الداعم الرئيس لإسرائيل في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من ان ترامب رعى صفقة القرن التي لم تتبلور كما رسم لها حتى الان واستعين بدلا منها بمبادرات وخطوات للتطبيع ثنائية بين اسرائيل ودول عربية لا تزال مستمرة الى الان سميت باتفاقيات “ابراهام”. وفي انتظار سير دول اخرى نحو التطبيع اكثر فاكثر، بايدن هو الاخر ومن ورائه الحزب الديمقراطي سيؤيد تلك الخطوات التطبيعية لا شك وهي جزء من الافكار التي يؤمن بها الحزب الديمقراطي، لكن الموافقة على ضم اجزاء من الضفة الغربية تغضب الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الذي يدعو الى التفاوض مع الجانب الفلسطيني للوصول الى حلول مشتركة نهائية ضمن مسار التفاوض الذي كان مرسوم في السابق، وبايدن هو في أمسّ الحاجة إلى دعم هذا الجناح اليساري في الحزب في الانتخابات القادمة. وعلى العموم، سيترك بايدن مسافة معيّنة للمناورة بينه وبين ترامب وسيتبنى مواقف تتسم بالدبلوماسية العالية وأن القرار بشأن قضايا الوضع النهائي متروك للإسرائيليين والفلسطينيين لكي يقرروا هم بأنفسهم.
في النهاية، على الرغم من الاختلاف الواضح في التعاطي مع ملف الشرق الاوسط، لكل من المرشحين دونالد ترامب وجو بايدن، وأيًا كان المرشح الذي سيقع اختياره لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات القادمة، لن يكون الشرق الأوسط هو محور اهتمامه الرئيسي. بل على عكس ذلك تماما، من المتوقع أن تركز الولايات المتحدة على إدارة الأزمة التي خلفتها جائحة كوفيد-19 على الصعيد الداخلي. أما فيما يخص السياسة الخارجية، سيحتل الشرق الأوسط مرتبة متراجعة في الترتيب.
إذا انتخب ترامب لعهدة ثانية، فإنه من الطبيعي أن تستمر فترة رئاسته أربع سنوات، لكنها ستكون سنوات تباعد وفتور للعلاقة مع منطقة الشرق الاوسط؛ ولن تكون تصورات ترامب حول العقوبات على إيران على سبيل المثال هي الفيصل، فممكن ان تتوصل ادارته لصيغة معينة من التفاهمات مع ايران، وبالتالي يصعب أن تستمر تصوراته القائمة على الأسود والأبيض في التعامل مع ملفات الشرق الاوسط، في حين إن إدارة محتملة لبايدن سوف تكون في جانب منها امتداد لإدارة أوباما السابقة فيما يتعلق بعلاقتها بملفات الشرق الاوسط، وقد يتبنى سياسات أكثر حيادية، مثل العودة إلى الاتفاقية النووية مع إيران وتطبيع العلاقات معها دون رفع سقف التوقعات أو إنهائها. ولكن الجانب الأكبر سوف يكون انعكاسا للتغيرات الضخمة التي شهدتها الولايات المتحدة والعالم خلال السنوات الأربع الماضية، وأي تطورات جديدة سوف تشهدها السنوات القادمة.
اذا، في الحقبة القادمة بعد الانتخابات سيشهد الدور الأمريكي مزيدا من التراجع في منطقة الشرق الاوسط، ولكن هذا التوجه لم ولن يعني انسحاب الولايات المتحدة بالكامل من الشرق الاوسط. فالولايات المتحدة ستحافظ على قدر من الاهتمام بهذه المنطقة لعدة أسباب، أولها يتعلق بكون الولايات المتحدة قوة كبرى في العالم وستظل مهتمة بأن تلعب دورا ما في الشرق الاوسط. السبب الثاني يتعلق بإسرائيل، وتعهدها بالحفاظ على وجود وأمن الدولة العبرية، وهو أحد ثوابت السياسة الامريكية. والسبب الثالث يتعلق بسعر النفط وتأثيره على الاقتصاد العالمي. فمازالت منطقة الخليج تلعب دورا مهما في تحديد سعر النفط كسلعة عالمية تخضع لمتطلبات العرض و الطلب.
ولكن المؤكد أن أهمية المنطقة للولايات المتحدة في تراجع مستمر، ومن ثم فإن رغبتها في التورط في شئونها أو لعب دور قيادي بشأن قضاياها هي أيضا في تراجع مستمر
وسيبقى التوجه الامريكي نحو تقليل الاهتمام والارتباط بمنطقة الشرق الاوسط والتوجه نحو القارة الآسيوي أحد متغيرات السياسة الدولية الجديرة بالاهتمام والمتابعة في الاونة الاخيرة.
د. خالد هاشم محمد
مستشار المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية