في أيار 2020م تبنت الحكومة العراقية برنامج الورقة البيضاء للإصلاح الاقتصادي التي تبنت وضع معالجات للمشكلات والتحديات الاقتصادية التي تفاقمت بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة منذ 2003م والتي أضعفت الاقتصاد العراقي وتهدد بانهيار النظام الاقتصادي والسياسي بفعل سوء الإدارة السياسية والاقتصادية.
تحديات الإصلاح السياسي والاقتصادي
وتتفاقم مشكلة العراق بفعل تعقيد التركيبة السياسية والاقتصادية التي تجعل من أي مشروع للإصلاح السياسي والاقتصادي صعب التحقيق، إذا ما استهدفت التصدي للحد من النفوذ السياسي والاقتصادي للأحزاب والتيارات المهيمنة على السلطات الثلاث. لقد أكد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، خلال جلسة مجلس الوزراء السبت 19 كانون الأول 2020م، أن ” العراق يعاني منذ عام 2003م من التأسيس الخطأ الذي يهدد النظام السياسي والاجتماعي بالانهيار الكامل”. وأضاف: ” إما انهيار النظام والدخول في فوضى عارمة أو ندخل في عملية قيصرية للإصلاح”. مؤكداً انه: “من غير المعقول ان نخضع لمعادلة الفساد السابقة”.
وأشار رئيس الوزراء إلى: أن “الأزمة السياسية في العراق مرتبطة بثلاث قضايا، هي السلطة والمال والفساد”، كاشفا أنهم ان الوزارة ستعمل على “معالجة الأزمة من منطلق اقتصادي، وبقرار جريء لتذليل عقبتي الفساد والمال“. ولفت السيد الكاظمي إلى أن: “الورقة البيضاء والإصلاحات التي نقوم بها حصلت على دعم دولي وإقليمي وسياسي”، مردفا: “نسعى من خلال الإصلاحات التي اعتمدناها إلى محاربة الفساد والفاسدين والنهوض بالاقتصاد العراقي وصناعة مستقبل أفضل، يحفظ كرامة المواطنين“.
الاختلالات البنيوية والوظيفية
أن العراق يعاني من خلل بنيوي ووظيفي في مؤسساته الاقتصادية والمالية يتمثل بهدر المال العام وتعزيز الفساد وشرعنته حزبياً وسياسياً، كما لم تعمل الأحزاب التي احتكرت السلطة منذ عام 2003م، على تبني استراتيجية اقتصادية شاملة في اطار نظرية اقتصاد السوق لإعادة بناء الصناعة والزراعة والخدمات وتوفير الفرص امام الاستثمارات الوطنية والأجنبية لتعظيم الموارد الاقتصادية من خلال توفير الطاقة الكهربائية وتشجيع التجارة الداخلية والخارجية وتحقيق التوازن في العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع دول الجوار والاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الامريكية بجانب الصين وروسيا والدول الاسيوية عبر الانفتاح على شراكات اقتصادية للتعاون في الاستثمار في الثروات العراقية التي تتجاوز 20 ترليون دولار لمواجهة ظاهرة الفقر والبطالة والجوع، وتحرير الاقتصاد العراقي سياسات رأسمالية الدولة والاقتصاد الأحادي الريعي الذي يعتمد على 90% من واردات النفط، والانتقال نحو الاقتصاد الإنتاجي.
الفساد المالي ومخاطر انهيار النظام الاقتصادي
ان السبب الجوهري للوضع الاقتصادي والسياسي الكارثي في العراق، كما أشار بوضوح رئيس الوزراء، هو استحواذ طبقة الأحزاب السياسية التي تفتقد لاعتماد نظرية سياسية واقتصادية معاصرة، كما لا تؤمن بالنظريات المعاصرة للدولة، ولجأت للاستحواذ على السلطات الثلاث ونهب الثروات العامة، حيث انفقت خلال 2006-2014م 600 مليار دولار بدون ايصالات، وفق تقرير أعده عادل نوري عضو مجلس النواب، كما كشف محافظ البنك المركزي سنان الشبيبي عن قيام الحكومة بهدر 800 مليار دولار، كان بإمكانها تحويل العراق الى بلد حضاري متطور ومزدهر يضم 30 مليون نسمة. وبسبب الخوف والتهديد بالقتل او الاحتجاز من قبل مافيات الفساد والجريمة المنظمة، قام المستثمرون العراقيون بتهريب 300 مليار دولار خارج العراق. إذاً لابد من جراحة عميقة لتصفية طبقة الفساد المالي والسياسي التي احتكرت السلطة عبر فوضى الحياة السياسية والدمار الاقتصادي، لتجنب انهيار النظام السياسي واندلاع الفوضى وربما الحرب الاهلية.
لقد جاءت قرارات البنك المركزي لخفض قيمة الدينار العراقي امام الدولار في محاولة لإنقاذ الوضع الاقتصادي المتدهور من الانهيار، ولكن في نفس الوقت ستفاقم هذه القرارات من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية للطبقات المسحوقة الفقيرة والمتوسطة وسيؤدي لرفع معدلات الفقر لأكثر من 40% إضافة لوجود وجود 4.5 مليون نسمة تحت مستوى خط الفقر، بجانب 6 ملايين يتيم و2 مليون ارملة بحاجة للرعاية الاجتماعية والصحية، كما يعيش 4 ملايين مواطن في البيوت العشوائية، حياة البؤس والتشرد في بلد يمتلك ثاني احتياطي للنفط بعب المملكة العربية السعودية لكنه الافقر من بين دول المنطقة.
ان خفض البنك المركزي في العراق قيمة الدينار مقابل الدولار الأمريكي، جاء استجابة للضغوط الاقتصادية المتزايدة، وبينها تراجع أسعار النفط وفي ظل استمرار تفشي فيروس كورونا، مما أدى لحدوث عجز كبير في الموازنة العامة واضطرار وزارة المالية إلى الاقتراض من المصارف، لغرض دفع الرواتب وتلبية الاحتياجات الإنفاقية الأخرى المتعلقة بالخدمات المقدمة للمواطنين. وحدد البنك المركزي سعر الصرف الرسمي الجديد عند 1460 دينارا مقابل الدولار الواحد، بدلا من 1182 دينارا للدولار، ما يخفض القيمة الرسمية للعملة بنحو الخُمس. وأضاف في بيان: أن الإخفاقات السياسية، التي تعود إلى أكثر من 15 عاما، أدت إلى تفاقم الأزمة، مشددا على أن الخفض سيكون لمرة واحدة ولن يتكرر، وأنه يهدف إلى دعم المالية العامة ومتطلبات الإنفاق العام.
ويبدو ان الأزمة الاقتصادية في العراق وانخفاض أسعار النفط، “قد يثيران حالة من انعدام الأمن“ والفوضى والقلق بين العراقيين، خوفا من تدهور الظروف المعيشية وتفاقم الأوضاع بصورة أكبر. وفي إطار تقييم قرار البنك المركزي، أكد الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن المشهداني، “إن قرار خفض قيمة العملة ستكون لها انعكاسات سلبية على المواطن والاقتصاد، على حد سواء”. وتابع المشهداني قائلا: أن “خفض قيمة العملة بنسبة 20 بالمئة، فيما السوق المحلية تعتمد بنسبة 85 بالمئة من احتياجاتها على السلع المستوردة، يعني أن الأسعار سترتفع بأكثر من 20 بالمئة وربما إلى نحو 30 بالمئة“. ومما لا شك فيه ان قرار خفض قيمة الدينار العراقي، قد أحدث صدمة عميقة في أوساط الموظفين والطبقة المتوسطة والفقراء المسحوقين، رغم وعود وزارة المالية بأن تعديل سعر الصرف “سيكون لمرة واحدة فقط ولن يتكرر مستقبلا”، إلى جانب محاولة الحكومة طمأنة المواطنين والتعهد بأن القرار لن يؤثر على فئات الشعب التي تعتمد على السلع المحلية.
تداعيات ومشاهد تطور الأزمة الاقتصادية
لقد شهد العالم تخفيض عديد من الدول قيمة عملتها، منذ أن تخلت الاقتصادات عن ربط عملاتها بالذهب، وباتت تربطها بعملات أخرى أو بسلة من العملات. ولذلك تبعات ايجابية وسلبية على الاقتصاديات تختلف من بلد لأخر وحسب ايضا ظروف كل بلد، وقد تسبب كما رأينا قرار خفض قيمة صرف الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي الأخير بضجة كبيرة، ضاعفت من حجم الأزمة التي يعيشها العراق منذ سنوات.
لكن في وسط كل هذه المعطيات، تستمر الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، وتنعدم فرص بلورة سياسة اقتصادية مالية لإنقاذ الاقتصاد العراقي. فالتحديات والعقبات الأمنية الكبرى والسلاح المنفلت، ومخاطر استمرار طبقة الفساد المالي والسياسي في التحكم بالثروات والمال العام، تحت سطوة استمرار ظاهرة انعدام الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وبالتالي يمكن أن تأول الامور في العراق في ضوء قرار خفض الدينار العراقي الى أحد ثلاث سيناريوهات وفق الآتي:
السيناريو الاول: اذا ما شهدت الاسواق النفطية صعودا في اسعار النفط وهو ما يتأمله المراقبون مع بداية عام 2021م وعودة النشاط الاقتصادي العالمي، أو على الاقل استقرار الاسعار الحالية، فأن ذلك قد يمكن الحكومة العراقية من أتخاذ إجراءات تخفيفية لتبعات هذا القرار على المواطنين اذا ما كانت الحكومة العراقية صادقة بنواياها بمساعدة المواطنين، أو تخصيصها جزء من القروض الدولية لدعم الصناعة المحلية، لكن هذا السيناريو يواجه عقبة الفساد المستشري في جسد الدولة العراقية والذي ساهم في تعطيل جميع الحلول الاقتصادية الممكنة سابقا وبالتالي ممكن ان يوقفها حاليا.
السيناريو الثاني: وهو الاكثر ترجيحاً وقتامة في ضوء المؤشرات الحالية، وهو أن ينزلق العراق في دوامة من الانهيار الاقتصادي قد تستمر لسنوات قبل أن يستعيد هذا الاقتصاد عافيته وتوازنه مرة ثانية، وهو أمر ينطوي على كثير من المخاطر في بلد غير مستقر سياسيا وأمنيا واقتصاديا حيث ينتشر السلاح المنفلت منذ العام 2003م، كما ساهمت ظاهرة ارتفاع الرواتب وعدد الموظفين الذي يصل الى 4 ملايين موظف إضافة للمتقاعدين ورواتب الضمان الاجتماعي في استنزاف الميزانية لأكثر من 45 مليار دولار سنويا، فما هي النتائج والتداعيات في تطبيق سياسة تخفيض قيمة تلك الرواتب الفعلية؟
السيناريو الثالث: قد يساهم خفض سعر صرف الدينار العراقي الحالي في أن يعود أصحاب رؤوس الاموال الى العراق للاستثمار فيه مستفيدين من انخفاض قيمة العملة، ولكن هذا السيناريو ايضا يواجه عقبات عديدة، فالأموال المطلوبة للاستثمار ولعودة البلاد للاستقرار هائلة تتجاوز ٤٠٠ مليار دولار لإعادة الاعمار وفق تقديرات البنك الدولي، كما أن الوضع الامني غير المستقر، كما أسلفنا، يدفع أي مستثمر للتفكير بحذر قبل اتخاذ قرار العودة للاستثمار في العراق.